على رغم من تطوّر علاقاتها مع واشنطن في السنوات الأخيرة، أصبحت فيتنام في الآونة الأخيرة أقرب إلى بيونغ يانغ.
يُعدّ هذا تحوّلاً لافتاً في السياسة الخارجية الفيتنامية، إذ سعت هانوي إلى إعادة صياغة مواقفها على الساحة الدولية. في خطوة بارزة، قام تو لام، الأمين العام للحزب الشيوعي الفيتنامي، بزيارة دولة إلى كوريا الشمالية في أيلول 2023.
هذه الزيارة تُعدّ الأولى من نوعها منذ 18 عاماً، وكان الهدف منها حضور احتفالات الذكرى الـ80 لتأسيس حزب العمال الكوري الشمالي. ويعكس هذا الحدث رغبة كوريا الشمالية في توسيع نطاق علاقاتها الدولية، على رغم من العزلة التي تعيشها تحت وطأة العقوبات.
أهمّية الزيارة في إطار العلاقات الثنائية بين البلدَين
تُعتبَر هذه الزيارة مهمّة، ليس فقط من ناحية طابعها الرسمي، لكن أيضاً في ضَوء العلاقات الثنائية بين فيتنام وكوريا الشمالية. فمنذ إقامة العلاقات الديبلوماسية بين البلدَين، لم تكن هذه الزيارة سوى الحدث الثالث من نوعه. إذ سبقتها زيارة رئيس الحزب الشيوعي الفيتنامي نونغ دوك مانه إلى كوريا الشمالية في 2007. وقبل ذلك، كان هو تشي مينه، أول رئيس شيوعي لفيتنام، قد زار كيم إيل سونغ في 1957. وعلى رغم من التوترات التي نشأت بين البلدَين، بعد غزو فيتنام لكامبوديا في السبعينات، استؤنفت العلاقات بين فيتنام وكوريا الشمالية في الألفية الجديدة.
خلال الزيارة الحالية، برز تو لام بشكل خاص في الاحتفالات، واعتُبر الضيف الأجنبي الأرفع في التسلسل الهرمي الفيتنامي، متفوّقاً بذلك على الرئيس لونغ كونغ. تعكس هذه الزيارة التوازن السياسي في فيتنام، حيث يظل الحزب الشيوعي هو صاحب السلطة العليا، مع توزيع الصلاحيات بين الرئيس ورئيس الوزراء ورئيس الجمعية الوطنية.
ويظهر هذا الدور الكبير للحزب الشيوعي في النهج غير التقليدي الذي تتبعه السياسة الخارجية الفيتنامية، التي تسعى إلى تعزيز علاقاتها مع قوى إقليمية ودولية متعدّدة.
التعاون الاقتصادي والسياسي بين فيتنام وكوريا الشمالية
على رغم من التشابه الأيديولوجي بين كوريا الشمالية وفيتنام، فإنّ الزيارة الحالية لا تمثل مجرّد تبادل ديبلوماسي، بل أيضاً تعكس رغبة فيتنام في تعزيز علاقاتها الاقتصادية والتقنية مع بيونغ يانغ. ففي عام 2019، عبّر كيم جونغ أون عن رغبة كوريا الشمالية في توسيع التعاون مع فيتنام في مجالات الدفاع والاقتصاد والتكنولوجيا والرياضة. هذا يُبيِّن أنّ فيتنام تُمثل فرصة استراتيجية لكوريا الشمالية، خصوصاً إذا كانت بيونغ يانغ تُخطّط لإصلاح اقتصادها في المستقبل.
الإصلاحات التي بدأت في أواخر الثمانينات، قد ساعدت في تحويل الاقتصاد الفيتنامي إلى اقتصاد مفتوح يعتمد على آليات السوق، بينما لا يزال الحزب الشيوعي في السلطة. هذا النموذج الاقتصادي قد يُمثل مصدر إلهام لكوريا الشمالية إذا قرّر كيم جونغ أون تنفيذ إصلاحات مشابهة في بلاده.
ووفقاً لتقارير، فإنّ كوريا الشمالية قد أرسلت وفوداً إلى فيتنام للاستفسار عن تجربتها الاقتصادية، ممّا يدلّ إلى اهتمام بيونغ يانغ بالاستفادة من الخبرات الفيتنامية في مجال التنمية الاقتصادية.
فيتنام: وسيط محايد في الحوار بين الكوريّتَين
في الآونة الأخيرة، تزايد دور فيتنام في الساحة الدولية، خصوصاً في تعزيز استقرار منطقة آسيا والمحيط الهادئ. وأحد أبرز تحرّكات فيتنام كان في آب 2023، عندما قام رئيس وزراء فيتنام، فو مان تو لام، بزيارة إلى كوريا الجنوبية، ليُصبح أول زعيم أجنبي يُستقبَل من قِبل الرئيس الكوري الجنوبي الجديد، لي جاي ميونغ. كانت الزيارة فرصة لفيتنام لتأكيد دعمها للحوار بين كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية، ولإبراز نفسها كوسيط محايد في هذه القضية.
موقف الولايات المتحدة من الزيارة
تحافظ الولايات المتحدة على علاقات قوية مع فيتنام، وتراقب من كثب تقاربها مع كوريا الشمالية. من جهة، تسعى واشنطن إلى الحفاظ على علاقاتها الاستراتيجية مع هانوي في مواجهة النفوذ الصيني المتزايد. ومن جهة أخرى، قد يُثير تقارب فيتنام مع كوريا الشمالية قلقاً أميركياً، خصوصاً في ظل برنامج بيونغ يانغ النووي والعقوبات المفروضة عليها.
وعلى رغم من هذه المخاوف، من غير المتوقع أن تؤثر الزيارة على العلاقات بين فيتنام والولايات المتحدة. فهانوي تسعى إلى الحفاظ على توازن دقيق بين الشرق والغرب، ولن تتخلّى عن تحالفاتها الاستراتيجية مع واشنطن، بينما تستفيد من تقاربها مع كوريا الشمالية لتعزيز مكانتها الدولية.
فيتنام وكوريا الشمالية: طموحات متبادلة وتحوّلات ديبلوماسية
تسعى فيتنام إلى بناء دور ديبلوماسي متوازن، إذ تواصل تعزيز علاقاتها مع القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة، وفي الوقت عينه تفتح باب التعاون مع كوريا الشمالية في مجالات متعدّدة. هذا التحوّل في السياسة الخارجية الفيتنامية يعكس رغبتها في ترسيخ مكانتها كقوّة إقليمية قادرة على لعب دور محوري في استقرار منطقة آسيا والمحيط الهادئ.
أمّا بالنسبة إلى كوريا الشمالية، فتُمثل هذه الزيارة فرصة لتعزيز العلاقات مع دولة تُعدّ نموذجاً اقتصادياً مثيراً للاهتمام، في حال قرّرت بيونغ يانغ تنفيذ إصلاحات اقتصادية جذرية.
في النهاية، تبقى العلاقات بين فيتنام وكوريا الشمالية نموذجاً للتقارب المستمر بين دولتَين، على رغم من التحدّيات التي تواجههما على الساحة الدولية. فهذا التقارب بين فيتنام وكوريا الشمالية ليس فقط انعكاساً للتطوّرات في السياسة الخارجية الفيتنامية، بل يعكس أيضاً استراتيجية بيونغ يانغ في إعادة بناء علاقاتها الخارجية في ظل تحدّيات العقوبات الدولية.