«جائزة نوبل» ورواية كآبة المقاومة!
«جائزة نوبل» ورواية كآبة المقاومة!
محمود القيسي
Tuesday, 14-Oct-2025 06:21

"أنا أحتقر هذه النوعية من الكتُب التي تُخبرك كيف تعيش. كيف تجعل نفسك سعيداً... الفلاسفة ليست لديهم أخبار جيّدة لك لهذا العالم، يجب أن تُصدِّق أنّ المهمّة الأولى للفلسفة هي جعلك تفهم عمق القرف الذي تعيشه".

الفيلسوف سلافوي جيجك

على غير عادته، تابع العالم بكل طبقاته وأطيافه ولغاته وألوانه وأزماته وحروبه وخلافاته من الطبقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والدينية والشعبية، بشكل لافت لم يسبق له مثيل «جائزة نوبل»، أو جوائز «نوبل» هذا العام، نظراً إلى البروباغندا التي سوّق لها وبها الرئيس الأميركي دونالد ترامب بحجة السلام في العالم في الظاهر، على رغم من عواملها السياسية العميقة في معظّم الأحيان... وخصوصاً هذا العام، وفي هذه الأيام التي يعيشها العالم من الحروب و»السلام»، التي لا أود التطرّق إليها في هذا المقال لاعتبارات عديدة.

 

بل، أكتُفِيَ بالتعريف بها على أنّها: مجموعة من الجوائز الدولية السنوية الممنوحة في فئات عدة من قِبل مؤسسات سويدية ونروجية، تقديراً للإنجازات الأكاديمية أو الثقافية أو العلمية. وخصوصاً الأب الروحي لجائزة «نوبل» الصناعي السويدي (مخترع الديناميت)، ألفريد نوبل، إذ صادق السيّد نوبل على الجائزة السنوية في وصيّته التي وثّقها في (النادي السويدي - النروجي) في 27 تشرين الثاني 1895.

 

وقد مُنحت جوائز «نوبل» في الكيمياء والأدب والسلام والفيزياء وعلم وظائف الأعضاء أو الطب، لأول مرّة في عام 1901. وعلى نطاق واسع تُعتبَر جوائز «نوبل» من أكثر الجوائز المرموقة الممنوحة في مجالات تخصّصها، وتحديداً «جائزة نوبل» للسلام المفقود في هذا العالم.

 

ما لفتني في «جائزة نوبل» هذا العام 2025، هو ترويج الرئيس الأميركي دونالد ترامب غير الطبيعي للجائزة من ناحية، ولنفسه من كل النواحي، خصوصاً «جائزة نوبل للسلام» - المفقود - من دون الغَوص بها.

 

ما لفتني في حقيقة الأمر رواية «كآبة المقاومة» التي تعنيني أكثر كمواطن لبناني في هذا المضمار وفي هذه الأيام. «كآبة المقاومة» رواية من تأليف لاسلو كراسناهوركاي، الذي حصل على «جائزة نوبل» للآداب لهذا العام، نُشرت عام 1989 وهي رواية عن العجز الجمعي للبعض، تفكّك المجتمع، وعبثية (المقاومة) حين لا تعرف أهدافها، لأنّها ببساطة قاتلة تقوم على أجندات ايديولوجية جاهزة من خارج واقعها السياسي والاجتماعي والثقافي...

 

هي عن الإنسان الذي يبيع هويّته حين يفقد إيمانه بالعقل والنظام والانتظام، ليستبدله بالإيمان الإيديولوجي الشمولي والديني تحديداً، بالفوضى والمُخلِّص الزائف - كما هو حالنا التعيس في لبنان.

 

رواية «كآبة المقاومة» تُعتبر العمل التوأم لرواية كراسناهوركاي الأولى، «رقصة الخراب» التي صدرت في عام 1985، إذ تتناولان معاً فكرة إنهيار المجتمع بعد تآكل القِيَم والسلطة بأسلوب سوداوي وجودي. بهذا المعنى، يرسم الكاتب نبوءة مبكّرة لصعود الشعبوية، وكيف يتحوّل الخَوف والفراغ إلى عنف جماعي أو انتحار جماعي.

 

هي عمل أدبي كثيف ومظلم، يجمع بين الرمزية السياسية والفلسفة الوجودية والتأمّل في مصير الإنسان والمجتمع بعد إنهيار النظام والقِيَم، وهي من أبرز أعمال الأدب الهنغاري الحديث، وقد أشتهرت عالمياً بعد تحويلها إلى فيلم بعنوان Werckmeister Harmonies (عام 2000). الرواية التي تدور أحداثها في (بلد صغير معزول)، يغمره الركود واليأس بعد عقود من الجمود السياسي والاجتماعي. يبدأ كل شيء بوصول سيرك غامض إلى المدينة، يصاحبه (حوت ضخم ميّت) يُعرَض في خيمة كبيرة، ومعه رجل غامض يُعرف فقط باسم «السيّد» أو «الساحر»، يدّعي أنّه قادر على إحداث تغيير جذري.

 

تبدأ الشائعات بالانتشار، ويتحوّل الفضول إلى خوف، ثم إلى اضطراب وفوضى جماعية. الناس الذين عاشوا في رتابة طويلة ينفجر فيهم الغضب المكبوت، وينتهي الأمر بانهيار النظام المحلي واندلاع عنفٍ وحراك عبثي لا يعرف سبباً ولا هدفاً.

 

نعم، عنف بلا سبب واقعي، يبدأ من تسلسل الشخصيات الرئيسة في الرواية، من رجل بسيط وغريب الأطوار، مهووس بعلم الفلك والانسجام الكوني والبحث عن النظام في الكون وليس على أرض الواقع، إلى السيدة إيستاير: أرملة متديّنة متشدّدة، تُجسّد السلطة الأخلاقية والدينية التي تتحوّل إلى تعصّب عند انهيار القيم والمبادئ. مدام بلاو: أُم فالوشكا، تُمثّل الطبقة البسيطة التي تُسحق بين الخوف والطاعة.

 

عبر هذه الشخصيات، يرسم كراسناهوركاي صورة لمجتمع يتهاوى تحت وطأة الخرافة، العجز، وانهيار المعنى. الرواية ليست عن بلد محدّد، بل عن الإنسان في مواجهة الفوضى. كراسناهوركاي يستخدم أسلوباً لغوياً طويلاً ومتدفّقاً - جِمَل تمتد أحياناً لعشرات الأسطر - ليُعبّر عن تَيهٍ فكري وشعوري، يُشبه تَيه الإنسان في عالمٍ بلا يَقين و«مقاومة فارغة» من خارج نطاقه الحيَوي، خصوصاً حين يختفي الإيمان بالعقل والنظام الكوني، يتسلّل العنف والخرافة كبدائل مدمّرة وانهيار النظام الأخلاقي والعقلي في غياب المعنى، الذي يولّد الفراغ الروحي والوحشية الجماعية، ويشبه فالوشكا (نبيّ بلا رسالة مسموعة) الذي يرى في الكون تناغماً، بينما البشر حوله غارقون في والفوضى والانهيار.

 

سياسياً، الرواية تُقرأ كتأمّل في ما بعد الشمولية. هي ليست انتقاداً مباشراً للنظام الفاسد وحلفائه، وخصوصاً الطبقة التي أنتجته وتُصرّ على استمراريّته وبقائه على رغم من موته، بل تشريح رمزي لمجتمع ميّت سريرياً، فَقدَ كل ثقة في الإصلاح أو المعنى. الحوت الميّت في السيرك يرمز إلى بقايا الأيديولوجيا القديمة التي لا تزال تُعرض كعجيبة جوفاء، أو إلى جثة النظام أو الحزب «الضامن» و «المهيمن» نفسه، الضخم في مظهره، الميّت في جوهره.

theme::common.loader_icon