لنبدأ بلغز: «أنا غير قانوني في فرنسا، لكنّي أعيش روتيني في إسبانيا. أنا مرتفع بشكل جنوني في برشلونة وريال مدريد، لكنّي كنتُ منخفضاً على نحو لا يُنسى في بوروسيا دورتموند وإيبسويتش تاون. أنا عادةً سرّي، لكن بطريقةٍ معجزة يبدو أنّ الجميع يعرف كل شيء عنّي في اللحظة الحاسمة. ونسخة جديدة ومحسّنة منّي تُعتبَر على الأرجح أفضل إجابة عن الأسئلة التي أثارتها القضية التاريخية لفوز لاسانا ديارا على «فيفا»، أمام محكمة العدل الأوروبية العام الماضي. مَن أنا؟».
ديارا أقنع أعلى محكمة في الاتحاد الأوروبي بأنّ جزءاً كبيراً من «لوائح «فيفا» بشأن أوضاع وانتقالات اللاعبين»، التي تُعدّ بمثابة الوصايا العشر لنظام الانتقالات العالمي، تنتهك قانون المنافسة. فاضطرّ «فيفا» إلى إصدار نسخة معدّلة موقتة من لوائحه لتُطبَّق على نافذتَي الانتقالات هذا العام، ويعمل حالياً على إيجاد حل أكثر ديمومة.
وفي الأثناء، يعتقد كثيرون داخل اللعبة وخارجها، أنّ ديارا قد ينتهي به الأمر بأن يكون ثَورياً على غرار جان-مارك بوسمان، لمنحه اللاعبين حقوقاً في التوظيف توازي ما يتمتع به المدنَيّون أمثالنا.
كما أنّ المهاجم البرازيلي لوكاس ريبيرو استشهد بالحُكم لتبرير قراره إنهاء عقده مع ماميلودي صنداونز الجنوب إفريقي، وتوقيع عقد جديد مع كولتورال ليونيسا الإسباني. المدافع بيير إكواه هو آخر مَن استخدم «بطاقة ديارا» في محاولته مغادرة سانت إتيان في وطنه فرنسا.
تشرح ليز سوتر، الشريكة في شركة المحاماة الرياضية اللندنية ESL Sports Law: «ما نتوقعه من «فيفا» سيكون تغييرات تدريجية، لكن هناك أمراً واحداً مؤكّداً: كلّما اقترب النادي واللاعب من بعضهما تعاقدياً منذ البداية، زادت احتمالية توافق مصالحهما وتجنّب النزاعات. فإذا اتُفِق على كل شيء منذ البداية، لن تكون هناك حاجة للاعتماد على «فيفا» أو المحاكم الوطنية».
يُفترض أن يكون بند الإفراج أو الشراء في صلب الاتفاق، لأنّه يُحدِّد قيمة رسوم الانتقال التي يجب أن يوافق الشاري على دفعها، قبل بدء التفاوض على الشروط الشخصية مع اللاعب.
لنَعُد إلى اللغز: برشلونة وريال مدريد يضعان بشكلٍ روتيني بنود إفراج بقيمة مليار يورو في عقود أفضل لاعبيهما، لردع الطامحين المحتملين. وبالنسبة إلى برشلونة، فالأمر نابع من تجربة مريرة، إذ لم يردع بند الإفراج عن نيمار بقيمة 222 مليون يورو، باريس سان جيرمان عام 2017.
في المقابل، فإنّ بندَي الإفراج في عقدَي إرلينغ هالاند (دورتموند) وليام ديلاب (إيبسويتش) مثالان على بنودٍ منخفضة القيمة، صُمِّمت لجذب عروض عمل جديدة، مما عاد بالنفع على المهاجمَين، لكنّه لم يكن كذلك بالنسبة إلى ناديَيهما.
لكنّ اللاعبين لا يُريدون نَسفَ نظام الانتقالات بالكامل، فاستقرار العقود مصلحة متبادلة، ولا أحد يختار الذهاب إلى المحكمة ما لم يُضطر. لذلك، فإنّ الاستخدام المتزايد لبنود الإفراج سيُصبح على الأرجح جزءاً أساسياً من ردّ فعل على قضية ديارا.
يرى فيدار فوسدال، الخبير النروجي في الشؤون المالية المرتبطة بالانتقالات: «يُرجّح أن يُصبح سوق الانتقالات في المستقبل قائماً بالكامل على بنود الإفراج، فيتوجّب على النادي واللاعب الاتفاق على كل شيء. والطريقة الوحيدة لتحقيق ذلك هي من خلال بند الإفراج، لكن لا يمكن أن يكون بالشكل الحالي، لأنّه غير مناسب. يجب أن يُبنى على تقييم مُتوقّع للقيمة السوقية».
خذ ديلاب مثلاً: قيمته السوقية كانت تقدّر بضُعف الـ30 مليون جنيه إسترليني التي حصل عليها إيبسويتش من تشلسي. بند إفراج أكثر تطوّراً ومنفعة للطرفين كان سيتحرّك تصاعدياً ليعكس موسمه الممتاز.
قد يشمل هذا النوع من البنود أيضاً مكافآت إضافية مقابل تحقيق أهداف أداء مستقبلية، ونطاقاً من رسوم إعادة البيع. بل ويمكن أن يمنح النادي المشتري خيارات للدفع، مثل تخفيض المبلغ إذا تمّ السداد دفعة واحدة، أو زيادته إذا تمّ تقسيطه على عدة سنوات.
قد يبدو هذا معقّداً، وهو كذلك. لكنّه ليس خارج قدرات فوسدال وسوتر، ومعهما عشرات الوكلاء والمموّلين والمحامين الذين تعاونوا لتأسيس شركة Release Consult، وهي خدمة استشارية للتعامل مع نظام الانتقالات الجديد بعد قضية ديارا.
تأسست الشركة في آب، وتؤكّد إنّها ستساعد الأندية واللاعبين على التوصّل إلى اتفاقات أولية أكثر عدلاً وصلابة من الناحية القانونية، كما تُخطِّط لتقديم خيارات تمويل بين الأندية البائعة والمشترية.
الركيزة الأساسية في هذا المشروع هي مفهوم «التقييم المتوقع»، الذي تعمل عليه بالتعاون مع خدمة Off The Pitch. فبدلاً من أن يتفق النادي واللاعب على رقمٍ ثابت لجذب أو ردع الأندية المنافسة، تسعى Release Consult إلى مساعدة الطرفَين على تحديد نطاق من القِيَم، يعكس تطوّر اللاعب وقيمته السوقية العادلة في اللحظة المناسبة، مع ضبط البنود الإضافية وحقوق الشراء وإعادة البيع وفقاً لذلك.
ولا حاجة للقول إنّ كل ما سبق سيخلق كمّاً هائلاً من العمل للمحامين، لكنّ الفوضى الراهنة تصبّ في مصلحتهم أيضاً، لذلك علينا تقبّل أنّهم أصبحوا جزءاً من اللعبة.
بنك «فيفا»
تمّ التطرّق كثيراً إلى تضخّم الفواتير القانونية في الـ»بريميرليغ»، لكنّ دليلاً جديداً على تصاعد «الحروب القانونية» في كرة القدم ظهر مع نشر تقرير «فيفا» لمحكمة كرة القدم عام 2024-2025 الأسبوع الماضي.
في 42 صفحة، يوثّق التقرير كل أعمال هيئات التحكيم التابعة لـ»فيفا» في تسوية النزاعات بين الوكلاء والمدربين والأندية واللاعبين. باختصار: لقد كانوا منشغلين جداً.
إذا نظرنا فقط إلى غرفة تسوية النزاعات (DRC)، التي تتعامل بشكلٍ رئيسي مع شكاوى اللاعبين بشأن الأجور غير المدفوعة، نجد أنّ عدد القضايا ارتفع بأكثر من 70% خلال 4 سنوات. ففي الموسم الماضي وحده، نظرت الغرفة في أكثر من 2000 قضية، وجميعها عابرة للحدود، لأنّ النزاعات المحلية تُحال إلى اتحاد كرة القدم في كل بلد.
هناك أسباب عدة محتملة لهذا الارتفاع الكبير في النزاعات الدولية، لكنّ أحدها هو أنّ الأندية تتعامل مع آلية غرفة تسوية النزاعات كنوعٍ من التمويل الرخيص، لأنّها تعلم أنّ «فيفا» يفرض فائدة قصوى لا تتجاوز 5% على المدفوعات المتأخّرة، وهي نسبة أفضل بكثير من تلك التي تحصل عليها حتى أفضل الأندية من البنوك.
بالتالي، فإنّ النظام بأكمله يُشجّع على الممارسات السيّئة. ويُعتقد أنّ «فيفا»، من جانبه، يدرس رفع معدّل الفائدة إلى 10% لردع الأندية عن استخدام غرفة تسوية النزاعات كوسيلة لإدارة تدفّقاتها النقدية. لكنّ أي خطوة يتخذها الاتحاد الدولي يجب أن تُطابقها الاتحادات الوطنية، لأنّ بعض الاتحادات لا تفرض أي فائدة على القضايا المحلية المتعلّقة بالتأخير في الدفع، ممّا يُثير التساؤل حول كيف يتقاضى اللاعبون رواتبهم في الوقت المحدّد أصلاً.
«فيفا» ترغب في القيام بالمزيد، فتعمل على إنشاء كيان جديد يسمّى «بنك فيفا». هذه الفكرة طُرحت منذ مدة، وكان رئيس «فيفا» جياني إنفانتينو متحمّساً لها منذ فترة طويلة. وأثارت ضجّة عندما كشفت «دير شبيغل» عنها ضمن تسريبات «فوتبول ليكس» عام 2018، لكنّ الفكرة لم تختفِ، بل طُوِّرت بهدوء خلف الكواليس.
وفقاً للأشخاص المطّلعين على المشروع، لا يتعلّق الأمر بإنشاء بنك فعلي بإمكانه إصدار القروض أو فتح الحسابات، بل بمنصة مالية داخلية لـ»فيفا» تهدف إلى إدارة التدفّقات المالية بين الأندية بطريقة أكثر شفافية وكفاءة، خصوصاً في سوق الانتقالات.
تدير «فيفا» نظاماً يُسمّى TMS (نظام مطابقة الانتقالات)، وهو قاعدة بيانات أُنشئت عام 2010 لضمان التزام الأندية بالقواعد أثناء الصفقات الدولية. الآن، تُخطِّط «فيفا» للانتقال من مجرّد تسجيل الصفقات إلى الإشراف المالي الفعلي عليها، عبر آلية تُتيح للأندية تحويل الأموال مباشرةً من خلال منصة تابعة لـ»فيفا».
سيضمَن ذلك، نظرياً، حصول الأندية على مستحقاتها في الوقت المحدّد، وسيسمح لـ»فيفا» بفرض رقابة مباشرة على الأموال المتدفّقة في السوق العالمية. وهذا، بطبيعة الحال، يعني المزيد من السيطرة، المزيد من البيانات، والمزيد من النفوذ المالي.
لكن هذا المشروع ليس خالياً من الانتقادات. فبعض الاتحادات والأندية الكبرى تخشى أن يمنح «فيفا» سلطة مفرطة، وقد ينقل مركز القوّة المالي من أوروبا إلى زيوريخ. وهناك أيضاً تساؤلات قانونية حول مدى توافق هذا النظام مع الأنظمة البنكية الدولية، خصوصاً في الاتحاد الأوروبي.
ومع ذلك، «فيفا» ماضية في خطّتها. أحد كبار مسؤوليها كشف في اجتماع داخلي أخيراً، إنّ الهدف هو أن يُصبح «بنك فيفا» جاهزاً للتشغيل الكامل بحلول عام 2026، أي مع انطلاق كأس العالم في أميركا الشمالية.
لكن ما تردّد في الكواليس أكثر من أي شيء آخر، هو أنّ كرة القدم الأوروبية تقترب من لحظة إعادة تعريف كبرى.
التحوّل نحو الشفافية المالية، وتصاعد نفوذ «فيفا»، وتنامي القوى الاقتصادية الأميركية، كلّها عوامل تدفع اللعبة نحو نظام عالمي موحّد قد يُغيّر شكل السوق بالكامل خلال السنوات العشر المقبلة.