اغتيال الدولة: حالة لبنانية مرشحة للتعميم دولياً
اغتيال الدولة: حالة لبنانية مرشحة للتعميم دولياً
طوني عطاالله
Thursday, 09-Oct-2025 07:30

تطرح التجربة اللبنانية منذ توقيع إتفاقية قاهرة متجدّدة في 6/2/2006 ظاهرة جديدة غير مدروسة في علم الاجتماع السياسي وفلسفة القانون: اغتيال الدولة (Étacide)، أي عملية منهجية تستهدف تدمير الكيان المؤسسي للدولة من الداخل برعاية نظام خارجي بربري. إنّها ظاهرة معاصرة شديدة الخطورة مشابهة لما حصل سابقاً في تقنية خطوط التماس التي انطلقت من لبنان خلال الحروب المتعدّدة الجنسيات (1975–1990)، ثم تحوّلت إلى نموذج شائع في نزاعات يوغوسلافيا السابقة، الصومال، الجزائر، سوريا، العراق، ليبيا، السودان، اليمن، وغيرها.

ما يدور من وقائع منذ 2006 هو عملية إغتيال موصوفة للدولة الرسمية بأبعادها الرمزية الجامعة، بواسطة دويلة موازية تقودها جماعة مسلّحة تحت ستار حزبي مموّه، يدّعي الوطنية، لا تنطبق عليه أيّة معايير حقوقية أو سياسية، ويمتلك كل مقوّمات الهَيمنة لمصادرة اختصاصات الدولة السيادية، وتحويلها مجال نفوذ مضارب يُفرِغ الدولة من مضامينها.

 

تعمل هذه الظاهرة على إنهاء دور لبنان-الرسالة وتحويله إلى دولة مزعجة لنفسه ولمحيطه العربي والدولي. للمفارقة، فإنّ جميع القوى التي احتلّت لبنان قبل عام 2006 لم تسع إلى اغتيال الدولة، بل حافظت على المركزية المطلقة للدولة، خلافاً لمشروع جهنّمي تدميري قَيد التنفيذ لاغتيال الدولة في لبنان في المرحلة الراهنة. يترادف هذا المخطّط مع إيديولوجيا دينية وتسييس الدين، مع امتداد إلى مجتمعات أخرى، لتخريب دولها ونشر الفوضى المهدّدة للأمن والسلم الدوليَّين. إنّه مسار مُخطّط من نظام خارجي مارق ومتخلّف يعمل على تعميم الدويلات الموازية.

 

مصطلح Étacide هو مشتق من État (الدولة) وCide (من اللاتينية caedere أي يقتل)، ويُشير إلى قتل الدولة أو اغتيالها. يتجاوز المفهوم ما يُدرَّس في العلوم السياسية وفلسفة القانون والاجتماع السياسي حول مقولة «قوّة الدولة وضُعفها وقُدرة الجيوش»، ليدلّ إلى آليات تفكيك متعمّدة للمؤسسات السيادية، من تعليق للدستور، فراغ رئاسي وحكومي، ومصادرة اختصاصات الدولة الأساسية في احتكار القوة المنظمة (جيش واحد)، احتكار التمثيل الديبلوماسي والسياسة الخارجية، الجباية والسياسة المالية والنقدية، إنتاج السياسات العامة التي تحقق المصلحة المشتركة.

 

3 أنواع في اغتيال الدولة

 

يُمكن التمييز بين ثلاثة أنواع في اغتيال الدولة: داخلي وخارجي وذاتي.

 

الاغتيال الداخلي: تَهدُم نُخَب، تتمتّع بموقع استراتيجي في الحكم أو فئات مهيمنة، الدولة من خلال الفساد، الزبائنية، تعطيل المؤسسات وتفكيكها، انتهاك قِيَم الجمهورية والإخلال بالثوابت الوطنية والدستورية. وفي شكل عام لا يمكن إغفال مسؤولية القواعد الشعبية عن التجاهل في التصدّي للمشروع الجهنّمي أو مقاومة محاولات تقويض كيان الدولة. وتُشكّل الانتخابات فرصة غير مستغلّة تُعيد إنتاج القديم بكل مساوئه بدل التغيير.

 

الاغتيال الخارجي: يتمثل في تحطيم الكيان الوطني عن طريق الهيمنة العسكرية الخارجية، الاحتلال، الغزو، أو الوصاية ومختلف أشكال السيطرة الخارجية، إذ تتحوّل الدولة ساحة نفوذ خارجي، يسلبها قرارها الوطني ويُفكَّك كيانها المؤسسي.

 

الاغتيال الذاتي أو الانتحار: تتخلّى الدولة طَوعاً عن صلاحيات سيادية أساسية (الأمن، السياسة النقدية، قرار الحرب والسلم) بمحض إرادتها، ما يُشبه الانتحار المؤسسي.

 

اغتيال الدولة تعبير بالغ الأهمية، يؤشر إلى أنّ الدولة، باعتبارها مؤسسة سيادية ضامنة للنظام العام والعدالة والخَير العام، لم تفشل أو تضعف من تلقاء نفسها، بل تعرّضت إلى عملية تدمير شريرة من قوى خارجية. يحمل هذا المصطلح أبعاداً متعدّدة:

 

سياسية: عندما تفكِّك نخب حاكمة المؤسسات، تُعطِّل آليات الرقابة والمساءلة، وتضرب القوانين والأنظمة وهيبة الدولة بعرض الحائط، على غرار ما جرى في لبنان منذ 2006 مع حكومات تُشكّل مجالس نيابية مصغّرة، تنتفي معها المحاسبة. وتنشط تالياً مساعٍ لتعكير التضامن داخل السلطة التنفيذية وشَلّ آلية الحكم. وتحويل الدولة إلى أداة هيمنة شخصية أو فئوية تستغل أجهزتها للانتقام من المعارضين وضربهم.

 

إقتصادية: تستنزف موارد الدولة بفعل الفساد، المحسوبيات، والخصخصة العشوائية، ما يحرم الدولة من عائداتها، وتالياً وسائل عملها والنهوض الاقتصادي. يندرج في هذا السياق حرمان المودعين من أموالهم، والعبث بأموال المصرف المركزي.

 

أمنية: يُصادَر أو يُنازَع احتكار الدولة للقوّة المنظّمة، وقرار السلم والحرب... وتنتشر ميليشيات وجماعات مسلّحة أو قوى خارجية، متوسّلةً مختلف أنواع الذرائع، مع خطاب إيديولوجي وتلوّث مفاهيم، بالتالي الحزب ليس حزباً بالمفهوم المتعارف بهدف الوصول إلى السلطة، بل هو دُوَيلة مقنّعة وجاهزة تحت ستار مسمّى «حزب». هذا النوع من القوى المسلّحة غير النظامية لا يحتمل النقد، بل يعمد إلى تصفية الأصوات المعارضة لترهيب المجتمع وإخضاعه.

 

ثقافي ورمزي: إفراغ الخطاب السياسي والمصطلحات واللغة السياسية من مضامينها، وتلويث معاني التعابير مثل السيادة والمواطنة والعدالة والميثاق والدستور والثلث الضامن وغيرها، فتُحوَّر المبادئ نفسها لتقويض فكرة الدولة. وتنتشر مؤسسات تُسمّى «تربوية»، لكنّ مناهج التدريس تُلغي كل فكرة نقدية وتربية أجيال على الطاعة والإحجام الطَوعي عن طرح أي سؤال في العلن.

 

اغتيال الدولة هو عمل متعمّد، بوجوده ينتفي معه الحديث المزعوم عن ضعف الدولة وعدم قدرة الجيش، لأنّ الدولة تُغتال بأيدي المؤتمَنين أصلاً على حمايَتها وضمان بقائها حيّةً، عملاً بما حذّر منه المبدأ اللاتيني القائل: «مَن يَحمينا مِن حُماتنا؟!» Quis custodiet ipsos custodies؟.

 

لبنان: حالة إختبارية

 

دخل لبنان طوراً في تفريغ الدولة من مضمونها السيادي، فتحوّلت المؤسسات الدستورية إلى واجهة شكلية لسلطة فعلية موازية. هذا وَضعٌ ملتبِس يجعل من لبنان نموذجاً إختبارياً لظاهرة الاغتيال المتعمّد للدولة، يمكن مقارنته وتعميمه على حالات أخرى تشهد ديناميات مشابهة، إذ تتعرّض الدولة إلى محاولات تصفية من داخلها، بقدر ما تواجه ضغوطاً خارجية.

 

إذا كانت خطوط التماس اللبنانية قد شكّلت نموذجاً انتشر في صراعات داخلية مع امتدادات خارجية في العديد من دول العالم، فإنّ مفهوم اغتيال الدولة (Étacide) مرشح بدوره لأن يتحوّل إلى أداة لفهم مسارات تفكّك الكيان الوطني في مجتمعات متعدّدة. يحتاج لبنان إلى يقظة وطنية على غرار ما حصل إثر اغتيال الرئيس رفيق الحريري ومَوكبه، لخلاص البلد الصغير من هذا المسار الجهنّمي.

theme::common.loader_icon