الخرائط المتوازية تفنّد مزاعم برّاك
الخرائط المتوازية تفنّد مزاعم برّاك
د. علي محمود الموسوي
Wednesday, 08-Oct-2025 07:40

إنّ قضية الحدود في المشرق العربي والشرق الأوسط من أعقد القضايا التي عرفها القرن العشرون. فهي لم تكن مجرد خطوط مرسومة على الورق، بل نتاج تفاعلات كبرى بين مشاريع إمبراطورية استعمارية ونزاعات محلية وقومية، أنتجت في النهاية خرائط ما زالت تحكم واقع المنطقة حتى اليوم.

كتاب «الخرائط المتوازية: كيف رُسمت الحدود في الشرق الأوسط؟» لعقيل سعيد محفوض، يضيء على هذه المسألة بمنهجية تاريخية وسياسية دقيقة، كاشفاً كيف تداخلت العوامل الخارجية والداخلية لصوغ خرائط المشرق. وهو ينقض ما ذهب إليه المبعوث الأميركي توم برّاك، من أنّ نشأة الدول الشرق الأوسطية استعمارية محضة.

 

معنى الخرائط المتوازية

 

يقدّم المؤلف مفهوم «الخرائط المتوازية» بصفته استعارة مستوحاة من فكرة العوالم المتعددة في الفيزياء. فخلال الحرب العالمية الأولى وما بعدها، لم تكن هناك خريطة واحدة أو تصور واحد لمستقبل المشرق، بل خرائط عدة متزامنة، متعارضة أو متناقضة، بعضها تحقّق وبعضها ظلّ في حيّز الاحتمال. خرائط سايكس ـ بيكو، خرائط جمال باشا، بروتوكول دمشق، إتفاق فيصل ـ وايزمن، ووعد بلفور، كلها أمثلة على خرائط متوازية، لم يُكتب لكلّها الاستمرار، لكنّها أسست جميعاً لمخزون من الاحتمالات السياسية التي انعكست على مصائر المنطقة.

 

محطات مفصلية

 

• مراسلات حسين ـ مكماهون (1915–1916): مثّلت أول محاولة لرسم خريطة عربية ـ بريطانية مشتركة، لكنها حملت منذ البداية بذور الالتباس والازدواجية في الالتزامات الدولية.

• سايكس ـ بيكو (1916): الاتفاقية السرّية التي اقتسمت بريطانيا وفرنسا بموجبها المشرق العربي، مع وعود لروسيا، ووضعت فلسطين تحت إدارة دولية.

 

• وعد بلفور (1917): أضاف البعد الصهيوني إلى معادلة الخرائط، فاتحاً الباب أمام تأسيس «الوطن القومي لليهود».

• مؤتمر الصلح ومعاهدتا سيفر ولوزان: أقرّت سيفر بدولة كردية وأخرى أرمنية، لكنّ لوزان ألغتها بعد انتصار تركيا الكمالية، مثبتة حدوداً جديدة ما زالت قائمة.

 

• قضايا خاصة بالحدود: النزاع حول شط العرب بين العراق وإيران، ضمّ لواء اسكندرون إلى تركيا، والخلافات على حدود فلسطين والأردن ولبنان وسوريا، كلها امتدادات لتلك الخرائط الأولى.

 

العوامل الداخلية والخارجية

 

لم تُفرض الحدود من الخارج فحسب. صحيح أنّ القوى الكبرى كانت صاحبة الكلمة المرجّحة، لكن القوى المحلية ـ العشائرية والطائفية والقومية ـ لعبت أدواراً أساسية، أحياناً بالمقاومة وأحياناً بالتواطؤ. وهكذا تبنّت الدول الناشئة هذه الحدود لاحقاً ودافعت عنها، على رغم من خطابها السياسي الذي أدانها واعتبرها مصطنعة.

 

الاستنتاجات

 

1- الحدود الحديثة في المشرق هي ثمرة عملية تاريخية مركّبة، لم تُحسم دفعة واحدة بل عبر جولات طويلة من المفاوضات والمعاهدات والحروب.

2- القوى الكبرى رسمت الخطوط العريضة، لكن الديناميات المحلية أعطتها مضموناً مختلفاً في كل بلد.

 

3- فكرة «الخرائط المتوازية» توضّح أنّ تاريخ المنطقة كان حافلاً بمسارات بديلة ظلّت قائمة في الإمكان، بعضها يعود اليوم في مشاريع تقسيم أو إعادة ترسيم.

 

ما نشهده في نزاعات اليوم ـ من الصراع على الحدود البحرية في شرق المتوسط إلى الخلافات السورية ـ التركية والعراقية ـ الإيرانية والفلسطينية ـ الإسرائيلية ـ هو استمرار لذلك الإرث. فالخرائط التي رُسمت قبل قرن لم تُغلق النقاش، بل أبقت المنطقة في حالة من التوتر الدائم بين حدود مرسومة وحدود متخيَّلة.

 

إنّ إدراك تاريخ الحدود في الشرق الأوسط على ضوء «الخرائط المتوازية» يكشف أنّ ما نعيشه اليوم ليس وليد اللحظة، بل امتداد لمسار طويل من التفاعلات بين الداخل والخارج. حدود المشرق لم تكن يوماً مجرد خطوط هندسية، بل معارك على الهوية والسيادة والنفوذ، ولا تزال قابلة للتبدّل كلما تغيّرت موازين القوى.

theme::common.loader_icon