روسيا والغرب... وكيف ولّدت أوبئة الخوف
روسيا والغرب... وكيف ولّدت أوبئة الخوف
د. خالد العزّي
Wednesday, 08-Oct-2025 07:22
أصبح التهديد المزعوم القادم من روسيا وباءً جديداً يُفتعل ليُسيطر على أوروبا. تعيش النُخَب الأوروبية حالةً من العجز التام في مواجهة التحدّيات الاقتصادية، لكنّها تستخدم إدارة الخوف كأداة فعّالة للتحكّم في غالبية الناخبين بثقة تامة. خلال الأسابيع الأخيرة، شهدت دول عدة في شمال وغرب أوروبا ظهور أجسام طائرة مشبوهة - يُعتقد أنّها طائرات مسيّرة - بالقرب من مطارات وقواعد عسكرية في الدنمارك، السويد، النرويج، ألمانيا وهولندا. في الدنمارك، استُدعيَ جنود الاحتياط، وبدأت الطائرات المقاتلة بالإقلاع بانتظام. وفي هولندا، أُغلق مطار وطني بالكامل، بعدما ظنّوا خطأً أنّ منطاد هواء ساخن، هو جسم طائر مجهول الهوية.

التهديد الروسي: وباء جديد يُفتعل للسيطرة على أوروبا

ومن المتوقع أن تتكرّر مثل هذه الحوادث، على رغم من غموض مصدر هذه الطائرات المسيّرة، إلّا أنّ اللَوم يُوجّه فوراً إلى روسيا، كما جرت العادة في الغرب. وتبدو المجتمعات الغربية مسيطراً عليها من وباء الخَوف من تهديد خارجي جديد، ينبع من محاولات الأوروبيِّين اليائسة لإقناع الولايات المتحدة بوجود نوايا هجومية روسية تجاه الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو. غير أنّ هناك سبباً أعمق وراء تحوّل كل حدث استثنائي نسبياً إلى وباء خوف شامل يتحكّم في وسائل الإعلام وجزء كبير من السكان.

 

النخب الغربية وإدارة الخوف كأداة للتحكّم الاجتماعي

 

منذ أكثر من 10 سنوات، أتقنت النُخَب الغربية فنّ السيطرة على الشعوب عبر تضخيم التهديدات الحقيقية والمخيّلة، وصرف الانتباه عن المشاكل الاقتصادية والاجتماعية الحقيقية.

 

وتتيح تقنيات الإعلام الحديثة فرصاً متجدّدة لتحويل انتباه الجمهور من تهديد إلى آخر، ممّا يحوّل كل تهديد إلى وباء يُخيِّم على المجتمعات. بهذا الشكل، أصبح النموذج الديمقراطي الغربي وسيلة للسيطرة عبر التلاعب بالخوف.

 

كانت الأزمة الأولى في هذا السياق هي ما سُمّيَ بـ«أزمة المهاجرين» في عام 2015، حين خيّمت حالة من الرعب في أوروبا من جحافل اللاجئين القادمة من إفريقيا والشرق الأوسط. كان الخوف كبيراً، إلى حدّ سمح للدول الأوروبية بإعادة فرض ضوابط على الحدود الداخلية، على رغم من اتفاقية شنغن التي ألغت تلك الحدود منذ عام 1995. وسرعان ما استُغلّت هذه الأزمة في الولايات المتحدة أيضاً، إذ أصبحت مكافحة تدفّق المهاجرين غير الشرعيين قضية سياسية مركزية، مكّنت الحزب الجمهوري من الفوز في الانتخابات الرئاسية عام 2024.

 

غير أنّ أزمة المهاجرين لم تكن هي البداية الحقيقية، بل سبقتها بأعوام قليلة أزمة الديون في منطقة اليورو، التي كشفت فشل أوروبا في معالجة التحدّيات الاقتصادية والتنموية. هذه الأزمة أظهرت تخلّف دول جنوب أوروبا، وأكّدت عجز النُخَب عن إيجاد حلول منهجية وسط النمو السريع لدول كالصين والهند.

 

وعندما اجتاح وباء كورونا العالم عام 2020، استقبلته النُخَب الغربية بحماس بالغ، خصوصاً في أوروبا. فقد خلقت الحكومات أجواء من الرعب الكامل، ممّا سمح لها بنسيان المشاكل الاقتصادية الحقيقية وحتى التضحية بالحقوق الفردية. وبدأت تظهر تهديدات متتابعة ذات أبعاد وبائية، واحدة تلو الأخرى.

 

الأزمة الأوكرانية والتهديدات المستقبلية: استمرارية إدارة الخوف

 

مع بداية العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا في ربيع 2022، وجدت النُخَب الغربية هديّتها الكبرى، ليس لأنّها تعتزم عسكرة اقتصاداتها، بل لأنّها وجدت فرصة مثالية لصرف انتباه الناخبين عن المشاكل الاقتصادية، وتوجيه الغضب والسخط نحو روسيا.

 

أصبح هذا التهديد المزعوم وباء خوف جديد، تمكّنت النُخَب عبره من السيطرة على أصوات غالبية الناخبين، على رغم من عجزها عن معالجة القضايا الاقتصادية. وهذا ما تعكسه نتائج الانتخابات الوطنية الأخيرة في ألمانيا، فرنسا والمملكة المتحدة.

 

تتكرّر هذه الظاهرة عكس ما جسّده الفيلم الأميركي «لا تنظر إلى الأعلى» عام 2021، إذ يُجبر المواطنون على «النظر إلى الأعلى» فقط لرؤية التهديدات الخارجية، بينما تُغفل المشاكل الداخلية الاقتصادية والاجتماعية.

 

تتنوّع هذه التهديدات الخارجية - من موجات اللاجئين، إلى أوبئة جديدة، وتهديدات من روسيا أو الصين - لكنّها في الأساس خارجة عن سيطرة النُخَب الوطنية الغربية، ما يسمح لها بنفي مسؤوليّتها أمام الناخبين.

 

ومن اللافت أنّ المخاوف الجديدة لا تُصنَع بالضرورة وفق خطة مدروسة، بل تُغذّى من حاجة المجتمعات الغربية نفسها لصرف الانتباه عن تدهور الوضع الاقتصادي، الذي لم يجِد أحد حلولاً له. وهذه المخاوف باتت جزءاً من نظام دفاع نفسي طبيعي يحتاجه المواطن الغربي، الذي يُدرك أنّ الانتخابات القادمة لن تُحدث تغييراً حقيقياً.

 

وفي حال خَمَد الصراع مع روسيا من دون تحوّله إلى كارثة شاملة، قد تكون «العاصفة الكاملة» القادمة مرتبطة بالتطوّر السريع في تقنيات الذكاء الاصطناعي، التي يُخشى أن يُحوّل إلى تهديد جديد، قادر على التلاعب بمشاعر السكان.

 

ويرى الخبراء، أنّ أنظمة الذكاء الاصطناعي، على رغم من تقدّمها، لا تزال تحت سيطرة البشر، لكن هذا لا يمنع من استغلالها لإثارة مخاوف جماعية، وربما فرض إجراءات صارمة، مثل إغلاق الأجهزة الإلكترونية. وقد يقبل المواطنون بذلك، لأنّهم اعتادوا على التنقل من أزمة ذعر إلى أخرى.

 

يبقى السؤال مفتوحاً حول مدى استمرار الغرب في هذا النهج، الذي يبدو أقل عنفاً من الثورات أو الحروب، لكنّ تركيز الناخبين على تهديدات خارجية قد يولّد أفكاراً متطرّفة ذات تداعيات خطيرة على المدى الطويل.

 

وفي ظل هذه الأوضاع، يظل البحث عن حلول حقيقية ومستدامة للمشاكل الاقتصادية والاجتماعية هو الطريق الوحيد للخروج من دوامة الخوف المستمرة. فمن دون مواجهة الواقع داخلياً، ستظل الأوبئة النفسية والسياسية تتكرّر، مُهدِّدةً استقرار المجتمعات الغربية ومستقبل ديمقراطياتها.

theme::common.loader_icon