الشيعة ومنطق الدولة في لبنان
الشيعة ومنطق الدولة في لبنان
محمد شقير

استاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية

Tuesday, 07-Oct-2025 06:23

لم نكن معنيين أن نكتب في هذا الموضوع، عن مكوّن طائفي في لبنان، لولا الحملة الإعلامية المتصاعدة، التي تستهدف كل من يواجه المشروع الأميركي ـ الإسرائيلي في المنطقة. هذه الحملة التي جعلت مهدافاً لها كل حركات التحرر، والمقاومة، والاستقلال الحقيقي، والسيادة الحقيقية، ورفض التبعية. ولمّا كانت الطائفة الإسلامية الشيعية في لبنان تعدّ بيئة حاضنة للمقاومة، فقد أصبحت هدفاً تُصوّب إليه السهام، في مجمل وسائل إعلام الإرجاف والتبعية، بهدف تشويه الوعي، وكسر الإرادة، بل ونشر الفتنة.

من هنا، أصبحت الطائفة الشيعية في لبنان عرضةً للعديد من حملات التضليل والتحامل والافتراء، والتي تركّز ـ في مجملهاـ على مقولة مفادها: إنّ هذه الطائفة هي خارج منطق الدولة، وما تستتبعه هذه المقولة من أقاويل، تخدم تعزيز هذا الافتراء وغاياته.

 

وما أودّ بيانه في هذه المقالة، هو أنّ هذا الاتهام مجحف بحق هذه الطائفة، ويفتقد إلى الواقعية والدليل، بل الواقع على خلافه.

 

ما ينبغي الإلفات إليه، هو أنّ هذا الافتراء يختزن في مطاويه نزعة عنصرية احتكارية، فهو عنصري، لأنّه يريد القول: إنّ فئة في لبنان تتناغم مع منطق الدولة والمدنية والحداثة، وإنّ فئة أخرى لا تتناغم مع هذا المنطق في الوعي والمشروع والخطاب. وهي احتكارية، لأنّها تريد أن تحتكر الدولة لنفسها، فـ "أنا الدولة، والدولة أنا"، فهي تقمصّت الدولة، وما على الآخرين إلّا أن يأتوا إليها مذعنين، ليلتزموا بتوجّهاتها، ويعملوا بقناعاتها، حتى يكون لهم نصيب من هذه الدولة، وإلّا، فهم خارج الدولة ومنطقها. وللأسف، ينبغي القول بوضوح: إنّ هذه النزعة الاحتكارية والعنصرية، هي من أخطر الأسباب التي منعت، وتمنع، من إعادة بناء الدولة وحضورها.

 

إنّ الطائفة الإسلامية الشيعية في لبنان مكوّن أساسي وأصيل في الاجتماع اللبناني، والنظام اللبناني، والدولة اللبنانية، وهي ليست خارج هذه الدولة ومؤسساتها ومنطقها، واختلاف الآراء والوعي والتوجّهات، لا يُخرج هذه الطائفة من ملّة الدولة ومشروعها، بل إنّ مشروع هذه الطائفة هو الدولة، والدولة لا غير، هذا هو تاريخها، وموقف كبار علمائها، وقادتها، بمن فيهم الإمام موسى الصدر، ومقولته الشهيرة "لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه"، وصولاً إلى أحزابها، ومقاومتها، وحاضرها المعاصر.

 

بل إنّ الشيعة في لبنان، هم من أكثر المكوّنات توقاً إلى الدولة الحقيقية، وحضورها الوظيفي ـ لا الصنمي ـ وإلى إعادة بنائها، كدولة قوية عادلة، والسبب في ذلك، أنّهم من أكثر الذين عانواـ وما زالوا يعانون ـ من غياب هذه الدولة، وإهمالها لأهم وظائفها ـ الدفاع عن حدودها وسيادتها وإنسانها ـ والحرمان من حضورها وعدالتها. ولأنّ أكثر من يعرف قيمة الأب وحضوره هو يتيم الأب، فإنّ الشيعة في لبنان، كأيتام للدولة في لبنان ـ من حيث حضورها الوظيفي لا الصنمي ـ هم من أكثر الناس توقاً إلى أبوّة الدولة، التي تكون لجميع أبنائها: لمواطني الأطراف وليس المركز فقط، لفقرائها وليس فقط للقلّة المرفهة فيها، لجميع عائلاتها الروحية، وليس لفئة دون أخرى فيها، وهم ـ أي الشيعة ـ من أكثر الناس حرصاً على مشروع الدولة وإعادة بنائها، لكن الدولة الحاضنة لجميع أبنائها، والتي أولويتها وهمُّها ودينُها وديدنُها أن تدافع عن مواطنيها، وتحميهم، وتحمي أرضهم من كل مَن يريد بهم سوءاً، أو شراً. الدولة التي لا فضل فيها لمواطن على آخر، إلّا بمقدار ما يعمل لوطنه، ويضحّي من أجله، فلا يكون المعيار طائفياً أو مذهبياً أو مناطقياً أو سواه.

 

إنّ ما حصل مع الشيعة في لبنان، هو أنّ القدر شاء أن يكونوا على حدود فلسطين المحتلة، حيث وجدوا أنفسهم، منذ عقود، في مجاورة كيان عنصري، عدواني، توسعي، احتلالي، بدأ منذ أيامه الأولى بالعدوان عليهم، وعلى وطنهم، وانتظروا دولتهم العليَّة للدفاع عنهم وحمايتهم، فما جاءت، واستصرخوها، فما أجابت، واستنهضوها، فما قامت ـ لنرجع في هذا الصدد إلى كلام وبيانات الإمام شرف الدين، والإمام السيد موسى الصدرـ وطال الانتظار، حتى أضحى واضحاً للعيان أنّ هناك في لبنان مَن يعاني من وعي منكوس للدولة، حيث الدولة، لدى بعض النخب، هي أن يرتدي المسؤول من أرقى ربطات العنق الجديدة، ويجلس في قصره، يستقبّل ويودّع مسؤولي الدول الأخرى ومبعوثيهم، ويستمع إلى إملاءاتهم، والتي في جلّها لا تنسجم مع منطق الدولة، في حين أنّ الدولة، في وعي المواطن، هي التي كانت من أجل الشعب ـ لا العكس ـ، أي الدولة التي تقوم بوظائفها نحوه، وتلتزم واجباتها أمامه، ومن أهمها حمايته والدفاع عنه. أي إنّ فلسفة الدولة وجوهرها، أنّها التي تقوم بوظائفها نحو شعبها، فهي بمقدار ما تقوم بوظائفها، بمقدار ما تحقّق ذاتها، وبمقدار ما تتخلّى عن وظائفها، بمقدار ما تُلغي ذاتها، وتنتقص من حضورها.

 

وأضحى الشيعة بين خيارين: إما ترك الأمور على ما هي عليه، وفي هذا استباحة للوطن، واحتلال لأرضه، وانتهاك لسيادته، بل خطر داهم عليه وعلى إنسانه وثرواته، وإما النهوض بما لديهم من قوة لتعويض إهمال الدولة لواجبها، وتخلّيها عن مسؤوليتها، فاختاروا الثاني، لأنّه واجب فطري، إنساني، أخلاقي، ديني، وطني، لا يُترك، ولا يُهمل، ولأنّ في تركه كثير من الشر والمفاسد والأخطار على الدولة والوطن والإنسان، فمَن يُلام هنا؟ وعلى مَن يجري العتاب؟ هل يقع عليهم، لأنّهم قاموا بواجب، تخلّت عنه السلطة؟ أم يقع اللوم على أكثر من سلطة، أهملت واجبها الأساس في الدفاع عن المواطن وحمايته؟

 

إنّ الشعب الذي اختار طريق المقاومة، لتعويض إهمال السلطة الرسمية، هو مَن يؤكّد بمقاومته منطق الدولة وحضورها الوظيفي، في حين أنّ السلطة التي تخلّت عن واجباتها في الدفاع عن الوطن، هي التي تفتقد إلى منطق الدولة، فالدولة ليست ربطة عنق، بل مسؤولية، وليست قصراً من حجر، بل وظيفة، وواجب أمام الله والوطن والإنسان.

 

إنّ السردية التي يروّج لها إعلام الإرجاف هي سردية مضلّلة، فليست الإشكالية أنّ الشيعة قي لبنان لا يريدون الدولة، في حين أنّ غيرهم يريد الدولة، بل الإشكالية أنّ الشيعة يريدون دولة حقيقية ـ بمفهموها الوظيفي لا الصنمي ـ ودولة عادلة، لا تميّز بين مواطنيها على أساس مذهبي أو طائفي ... في حين أنّ البعض في لبنان يريد سلطة ـ وليس دولة ـ أو دولة فارغة من مضمونها، مُهمِلة لوظائفها، أي هو يريد صنم دولة، لا دولة حقيقية.

 

إنّ اختيار طريق المقاومة، لأنّه الطريق الوحيد الذي يحقّق معنى الدولة، ويمهّد لحضورها، من خلال تحرير الأرض، وحفظ السيادة. أليس هذا الذي حصل على مدى عقود من الزمن، عندما استطاعت المقاومة تحرير الأرض، والدفاع عن لبنان، وردع العدوان؟ أما محاولة البعض البناء، فقط وفقط، على ما حصل أخيراً من عدوان إسرائيلي على لبنان، فهو فعل انتقائي، ومقاربة غير علمية، لأنّه لا يصح البناء على واقعة، وإهمال سياق تاريخي، امتد لعقود من الزمن، من الردع والتحرير، فقد تُصاب الجيوش ـ مثلاًـ بانتكاسة، لسبب أو آخر، لكن هذا لا يعني أنّ وجودها لم يعد ضرورياً، أو أنّ منطقها يجافي الصواب، أو أنّ دورها لا ينسجم مع مفهوم الدولة وبنائها.

 

إنّ الشيعة في لبنان هم طائفة الدولة، وجزء منها، وما اختيارهم لطريق المقاومة، إلّا، لأنّه ـ في الظروف التي نعيش ـ الطريق الوحيد لبناء الدولة واستعادتها.

 

إنّ مشروع الشيعة في لبنان هو بناء الدولة من خلال الحوار، والتعاون، والشراكة، والعدالة، واحترام الأسرة اللبنانية لبعضها البعض، وليس بالتنكّر للهواجس، وإهمال المطالب، ولو كانت محقة؛ فهل تُبنى الدولة بالتحريض على طائفة، والعمل على تشويه هويتها؟ وهل تُبنى الدولة بزرع المتاريس الطائفية بين الطوائف؟ وهل تُبنى الدولة بالتحامل على مكوّن وطني في لبنان؟ وهل المدخل إلى بناء الدولة هو خطاب الكراهية السياسي والإعلامي الذي يعتمده البعض في لبنان؟ إنّ مَن يريد الدولة حقاً، يختار بابها الصحيح الذي منه نلج جميعاً إليها. إنّ من يريد الدولة وبناءها، لا يختار الطريق الخطأ الذي يُبعد عنها. لا تُبنى الأوطان بالأحقاد، ولا تُبنى الدول بالعداوات. إنّ الاستعانة بالخارج، واستغلال ما تعرّضت له المقاومة في لبنان للإخلال بالتوازنات الوطنية، والتهجّم على مكوّن وطني، واستضعاف طائفة لبنانية؛ يوصل إلى الفتنة، وليس إلى الدولة. من كان يريد الدولة فلها أساسها، وهو العدالة، ولها سبيلها، وهو الحوار. مَن كان يريد الدولة، سيجد أنّ شيعة لبنان هم مِن السبّاقين إليها، ومِن أحرص الناس عليها، لكن على كلمة سواء، أن نكون سواسية في هذا الوطن، سواسية في الحقوق والواجبات، وأن يكون لجميع أبنائه، لا لفئة دون أخرى، وأن نخرج من احتكارية الدولة، لأنّها على مقاس جميع أبنائها، وليس البعض منهم.

theme::common.loader_icon