جيلٌ يَحيا بين مداد القلم وسطوع الشاشة
جيلٌ يَحيا بين مداد القلم وسطوع الشاشة
أسماء ربيع المنهالي
Monday, 06-Oct-2025 08:33

نحن جيلٌ وُلِد في مفترق الطرق، بين عالمَين متباعدَين، لا يجمع بينهما سوى الذكريات. جيلٌ عرف طعم المعرفة بين صفحات الكتب قبل أن تُغرقنا شاشات الهواتف، وارتشف لذة الاكتشاف بين رفوف المكتبات قبل أن تصير الإجابات جاهزة بضغطة زر. نحن الجيل الذي تَشكّل وعيه قبل أن يُصبح الإنترنت جزءاً لا يتجزّأ من تفاصيل الحياة اليومية.

كنّا آخر مَن انتظر البرامج على التلفاز في أوقاتها المحدّدة، وأول مَن شهد دخول العالم الرقمي إلى كل زاوية من زوايا الحياة. بحثنا عن المعلومة بين المجلّدات، وقفنا متسمّرين أمام كتب توسّع مداركنا، وعلّمنا الزمن أنّ للحقيقة أوجهاً، وللرأي الآخر وزناً. جيلٌ يَحيا بين مداد القلم وسطوع الشاشة... يبحث عن توازن بين أصالة الحبر وسرعة الضوء، بين اللمسة الورقية والصورة الافتراضية.

 

تجربتي مع الانفصال الرقمي

كل عام، أبتعد عن «إنستغرام»، وأضع «واتساب» في وضعية الصامت. أختار أن أكون موجودة خارج تلك العوالم الصاخبة، لا مقطوعة عنها، بل أكثر وعياً بها. أُراقِب، أُفكّر، وأتّخذ قراراتي بشأن مَن أريد أن أكون، وكيف أعيش حياتي من دون أن تُعرّفني إشعارات أو تستهلكني شاشة.

 

منذ 7 سنوات تقريباً، قرّرتُ ألّا أستخدم الهاتف خلال خروجي مع الأهل أو الأصدقاء. فمَوعدي معهم، لا مع هواتفهم. ولا مع صُوَر تُلتقط لتُشارَك، ثم تُنسى. تعوّدتُ أن أكون حاضرة، لا متصلة فقط.

 

هل نحن حاضرون حقاً؟

كثيراً ما أسأل نفسي: هل نحن موجودون فعلاً حين نكون برفقة من نُحِبّ؟ أم أنّنا نَحضُر بأجسادنا فقط، بينما أرواحنا تلهَث خلف إشعارات ومشاركات؟ هل أصبحت علاقاتنا تُختزل في «تاغ» أو «منشن» وصورة تُنشَر، من دون نظرة صادقة أو حديث دافئ من القلب؟

 

ما بين الحضور الحقيقي والحياة الرقمية المتسارعة، بدأت تتآكل لحظات المعنى. صرنا نُحمِّل هواتفنا كل ما لم نَعُد نقوله، ونمنح الشاشات وقتاً أكثر ممّا نمنحه لأعيُن من أمامنا.

 

في هذا العالم الافتراضي، توارى التفكير الحُرّ خلف أقنعة العرض والمشاركة، وغاب التميّز تحت ثقل التكرار. بات من السهل أن نعيش حياة لا تُشبهنا، فقط لأنّنا اعتدنا التظاهر بأنّ كل شيء على ما يُرام. أصبح القالب أهم من الجوهر، والتمثيل أهم من الصدق.

 

أنا أختار أن أعيش

لا رغبة لي في حياة افتراضية تُستهلك فيها المشاعر وتُعاد فيها اللحظات بمؤثرات صوتية. أعشق الواقع على رغم من تناقضاته. أحِبّ تفاصيله الصغيرة... فنجان قهوة في كوبٍ فخّاري، سحابة تَعبُر السماء، شعاع شمس يُداعِب وجه الأرض. أحِبّ أن أرى مَن يُحدّثني بعَينَيه لا عبر شاشة، وأن أشعر باللحظة بكل حواسي.

 

لا زلتُ أكتب في دفاتري، أصحبها معي أينما ذهبت. أشعر بدفء الكلمات على الورق، برائحة الكتب، وبمتعة الإمساك بالقلم. كثيرون يسألونني: «لماذا لا تكتبين على الهاتف؟»، لكنّني ببساطة لا أستطيع. فالقلم هو أول الخلق... فكيف لي أن أستغني عنه؟

 

أضمّ كتبي وأوراقي إلى قلبي، كأنّني أحتفظ بجزء من هويّتي بين سطورها. لا أكتب لأشارك فحسب، بل لأتذكّر، لأتأمّل، ولأُبقي على شيء من ذاتي حياً.

 

وسائل التواصل... أداة لا أكثر

 

وسائل التواصل ليست عدواً. من خلالها تعلّمت، تأثّرتُ وأثّرت، كوّنتُ صداقات جديدة، وجدّدتُ قديمة. لكنّها - ككل أداة - تحتاج وعياً في استخدامها، وإدراكاً لحدودها، حتى لا تُصبِح مرآة مشوّهة لحياتنا.

 

في الختام، ربما، في لحظة ما، سندرك أنّنا لم نَعِش الحياة كما ينبغي، بل اكتفينا بالتظاهر بها. صوَر، مقاطع، ومنشورات... لا تعكس بالضرورة ما نحن عليه، ولا تُجسّد عبورنا الحقيقي في ممر الحياة.

 

الحياة، في جوهرها، لا تُقاس بما نُظهره للعالم، بل بما نحتفظ به في أعماقنا.

 

وبين مداد القلم وسطوع الشاشة... يقف جيلٌ يحاول أن يتذكّر، لا كيف يعيش فقط، بل كيف يَحيا حقاً.

theme::common.loader_icon