هناك قاعدة ذهبية في المملكة المغربية: عندما ينغلق الأفق السياسي وتتقوّى القبضة الأمنية، يأخذ الشارع الكلمة. هكذا يتقدّم الإصلاح السياسي في المغرب منذ عقود، وهكذا يمكن أن نقرأ الاحتجاجات التي تهزّ البلاد منذ أكثر من أسبوع، بقيادة شباب تتراوح أعمارهم بين 13 و28 سنة، أو ما يُعرف بـ"جيل Z" الذي يتجاوز عدده في المغرب 8 ملايين من بين 37 مليوناً من السكّان، بحسب آخر الإحصائيات.
نحن أمام احتجاجات غير مسبوقة، لأنّها انطلقت من منصّة تواصل شبابية (ديسكورد)، المنصّة نفسها التي خرجت منها تظاهرات نيبال العنيفة. المشترك بين احتجاجات المغرب، نيبال، مدغشقر، وقبلها بنغلادش، سريلانكا، ماليزيا، الفيليبين وإندونيسيا، هي أنّها وُلِدت على منصات شبابية، ويقودها «جيل Z» الذي يُشكّل نسبة مهمّة من سكان هذه البلدان.
يعتبر المفكر والباحث إيمانويل تود، المعطيات الديمغرافية، حاسمة في اندلاع الثورات، وقد ألّف كتاباً صغيراً حول «الربيع العربي»، يشرح دور العامل الديمغرافي في ما جرى، تحت عنوان :»الله لا دخل له!». بالنسبة إلى تود بمجرّد تحقّق مجموعة من الشروط الديمغرافية تُصبِح الثورة حتمية، على رأسها ارتفاع نسبة الشباب في المجتمع، لأنّها مرحلة عمرية تدفع نحو التمرّد والمغامرة والاحتجاج. وحدثت الثورة الفرنسية عام 1789 لأنّ ثلث الفرنسيِّين كانت أعمارهم تقلّ عن 30 سنة في نهاية القرن الـ18.
وأطلقت الحركة الاحتجاجية في المغرب على نفسها اسم GenZ212 (اختصاراً لجيل Z مع المفتاح الدولي للهاتف الخاص بالمغرب)، وشملت كل المدن الكبرى والمتوسطة تقريباً وبعض المدن الصغرى، بخلاف «احتجاجات الريف» التي عرفتها المملكة بين 2016 و2017، واقتصرت على منطقة بعينها شمال البلاد.
تراوحت التظاهرات، إلى حدّ الآن، بين الاحتجاج السلمي والانفلات التخريبي، خصوصاً في المدن الهامشية، حيث تنتشر أحزمة الفقر، مثل بلدة القليعة جنوباً، حيث قُتِل 3 متظاهرين برصاص الأمن، عقب أعمال عنف و»محاولة اقتحام ثكنة للدرك»، بحسب الرواية الرسمية. السلطات تتجنّب التصعيد، عموماً، وتسعى إلى احتواء الاحتجاجات بطرق سلمية، مع اللجوء إلى القمع والاعتقال في بعض الحالات، خصوصاً في المناطق المهمّشة والفقيرة، حيث قطار التنمية متوقف تماماً.
الجميع في المغرب متفق على أنّ البلاد تسير بسرعتَين، بمَن فيهم الملك، الذي انتقد المفارقة علانية في إحدى خطاباته. التشخيص معروف والعلاج مؤجّل. هناك نجاح اقتصادي لا غبار عليه، يتمثل في تحديث البنيات التحتية، توسيع شبكة الطرق السيّارة والقطار فائق السرعة والملاعب الضخمة، جلب الاستثمارات، وانتعاش السياحة... وهناك في المقابل، سكّان يعيشون في مناطق مهمّشة، من دون أبسط شروط الحياة، يموتون بسبب انعدام المستشفيات، أو من جرّاء البرد والفيضانات، وهناك تدهور للمنظومة التعليمية، وارتفاع في معدّل البطالة...
باختصار، نحن إزاء نسختَين من بلد واحد: النسخة المحلية التي يتكدّس فيها ملايين المهمّشين والنسخة الدولية البرّاقة التي تُسَوَّق للعالم، المغرب وموروكّو!
بعد نجاح المنتخب المغربي في التأهل إلى نصف نهائي مونديال قطر، وانتزاع استضافة منافسات كأس العالم 2030، مع إسبانيا والبرتغال، وقبلها كأس إفريقيا 2025، تحوّلت كرة القدم إلى رهان استراتيجي، تُصرَف عليه الدولة مليارات الدولارات لبناء الملاعب وتنظيم المنافسات. لكنّ الاستثمارات الضخمة في المجال الرياضي أصبحت تزعج فئة من المواطنين، في ظل هزالة الميزانية المخصّصة لقطاعات حيَوية مثل الصحة والتعليم. غير أنّ النقطة التي أفاضت الكأس هي وفاة 8 نساء أثناء الولادة في مستشفى بأكادير جنوب البلاد، خلال أقل من أسبوعَين، بسبب الإهمال، ممّا فجّر غضباً واسعاً، انتهى بالدعوة إلى الاحتجاج في مختلف المدن المغربية.
هناك أيضاً سياق عام مهّد لهذه الاحتجاجات. خلال السنوات الأخيرة، توسّع نفوذ المؤسسة الأمنية، تراجعت حرّية التعبير، أُغلِقَتْ أهمّ الصحف، وحلّت مكانها مواقع متخصّصة في التطبيل للمبادرات الرسمية والتشهير بالمعارضين، والقفز على كل الأعراف المهنية والضوابط الأخلاقية، كما انتشر الفساد بين السياسيِّين (يوجد اليوم أكثر من 30 نائباً في السجن، بتُهَم تتراوح بين الفساد والنصب والتزوير) حتى أصبح البعض يطالب بفتح ملحقة للبرلمان في «عكاشة» أشهر سجن في الدار البيضاء، على سبيل السخرية. أصبحت سمعة الأحزاب في الحضيض، وتعمّقت الهوّة بينها وبين مَن يُفترَض أنّها تُمثلهم، برامجها متشابهة ولا تُقدِّم أي بديل لحلّ مشاكل المواطنين.
كل هذه العوامل شكّلت أرضية خصبة لتململ الشارع مجدّداً. لكنّ التظاهرات هذه المرّة لا ترفع شعارات سياسية جذرية، مثل الملكية البرلمانية وتغيير النظام، بل مجرّد مطالب اجتماعية تتعلّق بإصلاح التعليم والصحة ومحاربة الفساد.
كما أنّ ميزة هذه الاحتجاجات هي القطيعة المعلنة مع الأجيال السابقة، سواء في الخطاب أو في آليات التظاهر. لأول مرّة يُصبِح العمر شرطاً للمشاركة في التظاهرات. إذا لم تكن من جيل Z، فأنتَ غير مرغوب فيك، لدرجة أنّنا شاهدنا بعض الشباب يطالبون النائبة نبيلة منيب (عن الحزب الاشتراكي الموحّد، أقصى اليسار) بأن تغادر التظاهرة وتتوقف عن «الركوب على احتجاجات الشباب»!
لأول مرّة أيضاً تحتل الشارع حركة يقودها مجهولون. منصة «ديسكورد» معروفة بصعوبة اختراقها، ممّا يجعل التعرّف على هوية قادة الاحتجاج صعباً، لكنّه ليس مستحيلاً.
خلال احتجاجات 20 شباط 2011، عمدت السلطة إلى عزل شباب الحركة عن بقية التنظيمات الإسلامية واليسارية، وأغرقتهم في الريع والأضواء، ممّا سلّط الضوء على تناقضاتهم، ومكّنها من احتوائهم والسيطرة على الشارع. المحتجّون اليوم مجهولون، ويُفضّلون ألّا يعرفهم أحد. عدم وجود قيادة علنية للحركة يجعلها عصية على الترويض، لكنّه يُعرِّضها إلى خطر الاختراق والتلاعب.
إلى حدّ الآن، لا تتواصل الحركة إلّا عبر بيانات تنشرها على «ديسكورد» بعد جموع عامة افتراضية، يجري فيها النقاش حتى ساعات متأخّرة من الليل، وقد وجّهت رسالة إلى الملك تتضمّن ملفاً مطلبياً من 8 نقاط، أولى بنوده: إقالة الحكومة الحالية برئاسة عزيز أخنوش.
على امتداد الاحتجاجات التي شهدتها المملكة في السابق، كانت الانتقادات توجّه مباشرة إلى الملك ومحيطه، لأنّه رئيس الدولة والمسؤول الأول عن سياساتها، وكانت «الملكية البرلمانية» دائماً في مقدّمة المطالب، نظام يسود فيه الملك ولا يحكم، على غرار النموذج الإسباني أو البريطاني. اللافت أنّ GenZ212 لا مشكلة لديهم البتة مع الملكية التنفيذية، بل إنّهم يرَون فيها خلاص البلاد، بالنسبة إليهم كلّ المشاكل تأتي من الحكومة. نحن بعيدون عن مقاربة شباب 20 شباط، والحركات اليسارية والإسلامية التي كانت تدعمهم.
في الأيام الأولى للإحتجاجات، لاذت الحكومة بالصمت، ممّا جعل المتظاهرين وجهاً لوجه مع رجال الأمن، وحين شرع بعض الوزراء في التواصل، زادوا الطين بلّة، وظهرت الهوّة عميقة بينهم وبين الشارع. استمرار التظاهرات وتوسّعها يضع السلطة في مأزق، ويُنذِر بأن تصبح الحركة أكثر راديكالية في حال عدم الاستجابة إلى مطالبها.