عامٌ على حرب لم تنتهِ... أطباء بلا حدود: نزيفٌ صحي ونفسي مستمر
عامٌ على حرب لم تنتهِ... أطباء بلا حدود: نزيفٌ صحي ونفسي مستمر
شربل البيسري
Wednesday, 24-Sep-2025 05:16

علا أزيز المسيّرة الإسرائيلية وكاد يحجب صوت عبد الكريم وهو يقول: «عدتُ لإصلاح الأضرار التي لحِقت بمنزلي، لكن كيف للمرء أن يبدأ حياته من جديد في غياب الأمان والقدرة على تحمّل تكاليف الأساسيات، مثل الأدوية؟».

مرّ عام منذ أن صعّدت إسرائيل حربها في لبنان، لكنّ الأزمة الإنسانية لم تنتهِ بعد. وعلى رغم من اتفاق وقف إطلاق النار المُبرم في تشرين الثاني 2024، صارت الهجمات الإسرائيلية واقعاً شبه يومي، ما يُعيق قدرة الناس على التعافي، ويحدّ من حصولهم على الرعاية الصحية. ولا تزال القوات الإسرائيلية تحتل نقاطاً عدة على طول الحدود الجنوبية، مانعةً عودة السكان ومتسبِّبةً بنزوح أكثر من 82,000 شخص.

 

رفع الأنقاض

 

عاد عبد الكريم إلى بلدته في قضاء بنت جبيل بمحافظة النبطية، وهي من أشدّ المناطق تضرّراً، ويتلقّى الآن أدويةً لأمراضه المزمنة من عيادة «أطباء بلا حدود» (MSF - Médecins Sans Frontières) المَيدانية. وتعاني آلاف العائلات في جميع أنحاء لبنان لتحصل على الرعاية الصحية، فيما تحاول إعادة بناء حياتها في ظل كوابيس النزوح والفَقد وانعدام اليقين.

 

في جنوب لبنان، دمّرت الحرب البنية التحتية، بما في ذلك الرعاية الصحية. وفي ذروة التصعيد، أُخلِيَت 8 مستشفيات، معظمها في المناطق الجنوبية، بينما تضرّر 21 مستشفى، أي نحو 13% من إجمالي مستشفيات البلاد، أو أُجبرت على الإغلاق أو خفّضت خدماتها بشكل جذري. كذلك، أُغلقت أبواب 133 من مرافق الرعاية الصحية الأولية، وفقدت النبطية وحدها 40% من طاقة مستشفياتها الاستيعابية. واليوم، يستمر إغلاق الكثير من المرافق المتضررة، وكثيرٌ منها تحتاج لإعادة تأهيل.

 

بعد التصعيد، أطلقت «أطباء بلا حدود» أنشطةً جديدة في المحافظات الأشد تضرّراً، في النبطية (3 عيادات) والجنوب (3 مراكز للرعاية الصحية الأولية) وبعلبك-الهرمل (عيادتي الهرمل وعرسال، و3 عيادات ميدانية)، بينما أبقت على وجودها وتقديم خدماتها في بيروت (عيادتَي برج حمود وبرج البراجنة)، البقاع (عيادة ميدانية)، الشمال (5 مراكز للرعاية الصحية الأولية) وعكار (عيادة ميدانية).

 

وفي الفترة بين 23 أيلول 2024 و1 أيلول 2025، قدّمت «أطباء بلا حدود» 175,338 استشارة طبية، 14,179 استشارة شخصية في مجال الصحة النفسية، و12,433 استشارة جماعية في مجال الصحة النفسية.

 

في المحافظات الجنوبية، حيث لا تزال الخدمات المتوفّرة غير متاحة مادّياً لكثير من العائدين، أنشأت «أطباء بلا حدود» عيادات ميدانية لضمان حصول السكّان على الخدمات الطبية والنفسية الأساسية. كذلك، تعمل «أطباء بلا حدود» على إعادة تأهيل ودعم 3 مراكز للرعاية الصحية الأولية لتُعيد تقديم الخدمات في مناطق العودة.

 

مساعدات نقدية لنحو 260 ألف متضرّر

 

بدورها، وجدت وزارة الشؤون الاجتماعية نفسها أمام تحدّيات غير مسبوقة لمواجهة التداعيات الإنسانية للحرب. فأوضحت وزيرة الشؤون الاجتماعية حنين السيّد لـ«الجمهورية»، أنّ الوزارة وضعت سلسلة من البرامج العاجلة التي شملت العلاج النفسي والاجتماعي، بالإضافة إلى المساعدات النقدية المباشرة لنحو 260 ألف شخص من الجنوب والضاحية والبقاع، يستفيدون حالياً من مساعدات نقدية شهرية تصل قيمتها الإجمالية إلى نحو 30 مليون دولار، وبمعدّل 110$ للشخص الواحد.

 

ولفتت السيد إلى أنّ هذه المساعدات «تُغطّي الحاجات الأساسية للأسر أو المصاريف اليومية»، مؤكّدةً أنّ البرنامج ما زال مستمراً بينما يجري العمل على تطويره وتأمين تمويل إضافي لضمان استمراريّته.

 

وفي ما يتعلّق بالرعاية الصحية والنفسية، أوضحت السيّد أنّ الوزارة اعتمدت «العيادات المتنقلة» التي تتنقل مرّتَين أسبوعياً إلى المناطق الحدودية، وتضمّ فرقاً متخصّصة من أطباء نفسيِّين ومُرشدين اجتماعيِّين يُقدِّمون خدمات الدعم النفسي والاجتماعي (Psycho-Social Support). كما أشارت إلى أنّ هذه الخطوة جاءت بديلاً عن المراكز الصحية التي تعرّضت للتدمير خلال الحرب.

 

أمّا على صعيد التعاون مع الجمعيات، فأكّدت الوزيرة «خفّضنا في وقت سابق عدد الجمعيات المستفيدة من التمويل بسبب شبهات سياسية. وهناك حالياً نحو 420 جمعية ومؤسسة متعاقدة مع الوزارة في مختلف المناطق اللبنانية»، مشيرةً إلى أنّ لائحة كاملة بأسمائها منشورة على موقع الوزارة الإلكتروني.

 

وفي ختام حديثها، شدّدت السيّد على أنّ أولويات الوزارة خلال المرحلة المقبلة تتركّز على «تأمين التمويل الكافي لتوسيع برامج الدعم، وضمان وصول المساعدات مباشرةً إلى الميدان (من أبرزها دفع إيجارات إيواء النازحين المتضرّرين من الحرب، بما يُلبِّي احتياجات الفئات الأكثر تضرّراً من الحرب».

 

العبء ثقيل

 

تُخبِرنا المرشدة النفسية العاملة في عيادة «أطباء بلا حدود» الميدانية في محافظة النبطية، ثروت سرائب، «تترك الحروب آثاراً هائلة على السكان المتضرّرين بشكل مباشر. فلا يمرّ يوم واحد هنا من دون أن يُعايش الناس الدمار مجدّداً، أصوات المسيّرات، احتلال الأراضي المستمر، والغارات الجوية التي لا تتوقف، كلّها تُعمّق من معاناة الناس». لا تزال فرق «أطباء بلا حدود» في الميدان تشهد على التكلفة البشرية للتصعيد وعلى الآثار طويلة الأمد لحرب لم تضع أوزارها بعد. ويعيش المرضى في خوف وانعدام يقين، وكثر منهم غير قادرين على البدء بالتعافي.

 

كذلك، تتزايد الاحتياجات المرتبطة بالصحة النفسية، إذ يعاني الأطفال والبالغون على حدٍّ سواء من الصدمة والقلق والخوف المستمر.

 

تُقِرّ سميرة، إحدى مريضات عيادة «أطباء بلا حدود» الميدانية، «ابنتي يُغمى عليها إذا سمعت غارة، حتى لو كانت بعيدة، هي وابنتها، ونحن نرجف. كلنا نتأثر بشدّة».

 

كيف لعبت وزارة الصحة دورها؟

 

وأوضح هشام فواز، رئيس دائرة متابعة المستشفيات والمستوصفات في وزارة الصحة، لـ«الجمهورية»، أنّ «عدداً كبيراً من المستشفيات والمراكز الصحية تضرّر خلال الحرب. والوزارة تتابع بشكل يومي أوضاع المستشفيات والمستوصفات المتضرّرة»، مضيفاً إنّ «مراكز الرعاية الصحية الأولية والعيادات المتعاقدة مع الوزارة لم تتوقف يوماً عن العمل حتى في مناطق الجنوب، بل على العكس، ازدادت وتيرة الاستجابة خلال الحرب، واستمرّت حتى اليوم. وأوضح أنّ غالبية المستشفيات التي أقفلت أبوابها بشكل موقت نتيجة الأوضاع، عادت وفتحت من جديد، ولم يبقَ أي مستشفى خارج الخدمة، باستثناء حالات محدودة جرى التعامل معها سريعاً ومنها ميس الجبل والنبطية».

 

في ما يتعلّق بتأمين الأدوية وتخفيض الأسعار، لفت فواز إلى أنّ للوزارة برامج قائمة منذ ما قبل الحرب وما زالت مستمرة حتى اليوم، منها برنامج الصحة النفسية الذي يؤمّن الأدوية الأساسية والعلاجية في مراكز الرعاية الصحية الأولية. وأكّد أنّ الأدوية النفسية متوافرة من خلال خط مخصّص تشرف عليه الوزارة، وأنّ ثمة شراكة مباشرة مع منظمات دولية، وفي مقدّمها منظمة الصحة العالمية وEmbrace، لتأمين هذه الأدوية بشكل مباشر أو غير مباشر. وأشار فواز أيضاً إلى أنّ وزارة الصحة تؤمّن أدوية الأمراض المزمنة، مثل أدوية السكّري والضغط وأمراض القلب، وهي متاحة في المراكز الصحية المعتمدة. وأضاف أنّ الحرب ساهمت في زيادة الطلب على هذه الأدوية، لكنّ الوزارة عملت على تأمينها واستمرار توزيعها بشكل منظّم، سواء خلال الحرب أو بعدها.

 

أزمة مشتركة

 

دمّرت الحرب العائلات اللبنانية واللاجئين والمهاجرين على حدٍّ سواء. فلبنان يضمّ أكثر من مليون لاجئ سوري ومئات آلاف الفلسطينيِّين وكثيراً من المهاجرين الذين يَعيشون أساساً في ظروف غير مستقرّة.

 

استثنت مبادرات إغاثية كثيرة هؤلاء السكان أثناء التصعيد، على رغم من أنّهم يواجهون الاحتياجات الملحّة عينها، في الغذاء والمأوى والرعاية الصحية.

 

وبعد مرور عام، لا تزال احتياجات اللاجئين والمهاجرين مهملة، وحصولهم على الرعاية الصحية المتخصّصة من خلال المنظمات الإنسانية بات في خطر.

 

وبحلول نهاية عام 2025، ستتوقف المفوّضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين والمنظمة الدولية للهجرة عن تغطية تكاليف الرعاية الصحية المتخصّصة، بينما تواجه الـ»أونروا» والـ»يونيسف» انخفاضاً غير مسبوق في التمويل. بالتالي، ستؤدّي هذه التخفيضات الحادة في التمويل العالمي للبرامج الإنسانية إلى عدم تلبية آلاف الاحتياجات، ما سيخلق احتياجات جديدة ويزيد من حدّة الاحتياجات القائمة.

 

شاقة هي المعركة التي يخوضها السكان لإعادة بناء حياتهم، كعبد الكريم وسميرة. لا تزال فرق أطباء بلا حدود ملتزمة بتقديم الخدمات حيثما دعت الحاجة، وضمان حصول السكان على الرعاية الصحية الحيَوية.

 

ومع ذلك، لن يتحقق التعافي الحقيقي إلّا عندما يتمكن الناس من العيش أحراراً من الخوف، وعندما يحصلون على الخدمات الطبية والنفسية والأساسية التي يحتاجون إليها فوراً لبدء حياتهم من جديد.

 

الدعم النفسي مع Embrace

 

على مستوى الدعم النفسي للمتضرّرين من الحرب، استقبلت جمعية Embrace للصحة النفسية 4364 مراجعة، إذ توافرت خدمة العيادة المفتوحة (Walk-in Clinic) في مركز الجمعية في الحمرا. وبمقارنة بسيطة بين أرقام حصص الدعم النفسي أو العلاج المقدّمة من قِبل Embrace في الفترة الأخيرة من الحرب مقارنةً بالعام الذي سبق، فقد سجّل شهرا تشرين الثاني وكانون الأول العام الماضي 428 و324 حصة توالياً مقارنة بـ344 و372 من العام 2023.

 

كما أنّ 69% من المتقدّمين إلى حصص الدعم/العلاج النفسي في المراكز الميدانية كُنَّ من النساء، بينما 34% من الرقم الإجمالي كانوا من المتزوّجين، فيما أنّ الشباب بين 18 و34 سنة كانوا يشكّلون نسبة 42%، و26% سوريِّين و50% هم لبنانيّون.

 

وقد تبيّن بحسب حديث ليال حمزة، المعالجة النفسية ومديرة في مركز «إمبرايس»، أنّ «غالبية الحالات التي تلقّيناها تعاني من الاكتئاب (20,9% في تشرين الثاني 2024)، والقلق بمختلف أنواعه (17,6%)، بالإضافة إلى اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)»، مشيرةً إلى أنّ هذه التشخيصات هي الأكثر شيوعاً في ظلّ الأوضاع المأساوية والحوادث الصادمة الناتجة من الحرب. بالنسبة إلى خدمات الدعم النفسي، تؤكّد حمزة «أنّها لا تزال مستمرّة حتى اليوم ضمن برنامج يرافق الأشخاص الذين بدأوا بالعلاج مسبقاً، خصوصاً أنّ العديد منهم ما زالوا متأثرين بخسارة منازلهم أو استمرار نزوحهم».

 

إلى ذلك، كان هناك تحدٍّ إضافي يتعلّق بالأدوية. إذ يضطرّ بعض المرضى، بعد مرحلة العلاج النفسي، إلى تناول أدوية، إلّا أنّ أسعارها غالباً ما تكون مرتفعة، فتوضّح حمزة: «لدينا في العيادة المركزية ميزانية صغيرة جداً مخصّصة لتأمين بعض الأدوية للفئات الأكثر هشاشة. فنكتفي بتغطية عدد محدود من الحالات الأكثر حاجة».

 

أمّا بقية المرضى الذين يتلقّون استشارات نفسية في العيادة المركزية ولا تتوافر لهم تغطية دوائية من خلالها، فـ»نحرص على تحويلهم إلى المراكز الصحية الأولية (PFCs) التابعة لشبكة من المنظمات غير الحكومية مثل كاريتاس، IMC، وغيرها، لضمان حصولهم على الأدوية اللازمة».

 

 

 

theme::common.loader_icon