لعنة الملك تابنيت: «أنا تابنيت، كاهن عشتروت، ملك الصيدونيِّين، ابن أشمونعازار، كاهن عشتروت، ملك الصيدونيِّين، الذي يرقد في هذا القبر... لا تفتح هذا الناووس؛ لأنّ مثل هذا الفعل هو رجس في عينَي عشتروت. إذا فتحت ناووسي وجئت تُزعجني، فلن يكون لك ذرية بين الأحياء تحت الشمس، ولا مضجع بين الأموات».
كان عثمان حمدي بك يبتسم في نهاية كتابه «مقبرة صيدا الملكية» سنة 1892، إذ إنّ تهديدات الملك تابنيت لم تمنعه من استخراج نواويس الملك وسلالته، التي ظلّت مدفونةً تحت الأرض منذ حوالى 2500 عام. لكن إذ هو قد نجا من دون أذى، فلا يمكن قول نفس الشيء عن دولة بني عُثمان، التي استمر حكمها طيلة 500 عام قبل أن تنهار 45 عاماً فقط من بعد هذا الحدث. أليس ذلك مدهشا؟
متحف النواويس
كان «متحف النواويس» الاسم الأول الذي أُطلِق على المتحف الأثري الحالي في إسطنبول، إذ إنّه ضمّ مجموعةً هامّة من نواويس الفينيقيِّين منذ تأسيسه، التي عُثِر عليها من الحفريات التي أجراها عثمان حمدي بك في صيدا وجوارها عام 1887. وتتكوّن هذه المجموعة من 18 ناووساً فخماً ومتنوّعاً للغاية من «مقبرة عيا الملكية» في الهلالية، بالإضافة إلى نواويس أنثروبوية من البرامية، المية ومية، بيروت، ودمشق.
متحف النواويس تأسس عام 1891، في عهد السلطان عبد الحميد الثاني، على يد الرسام والأثري عثمان حمدي بك، وقد صمّمه المهندس المعماري ألكسندر فالوري، ليكون في المقام الأول مقراً لهذا الكنز الثمين.
لقد كانت واجهة المبنى نفسها مستوحاة مباشرةً من اثنين من النواويس الشهيرة في المتحف: ناووس الملك عبد الونيم، الملقب باسم «الإسكندر»، إذ يظهر الملك الصيدوني مع الإسكندر الكبير، الذي أعاد له العرش؛ وناووس الملك عبدأشتارت الأول، الملقب باسم «النائحات» بسبب النقوش البارزة على جوانبه الأربعة، التي تُمثل مجموعة من النساء يُعبِّرن عن كل حالات الحزن.
كنز صيدا
ما هي أهمية هذه الآثار القديمة؟ ولماذا يجب المطالبة بها؟ دعونا نُذكّر أولاً بقيمتها الفنية؟ من أجلها فقط، يستحق أن يُطلق عليها اسم «كنز صيدا»، لأنّها ليست فقط فريدة من نوعها، بل هي أيضاً أجمل نماذج من كل نمط وعصر يتناسب معها.
أمّا قيمتها التاريخية، فهي أيضاً لا جدال فيها، أولاً لكل عنصر على حدة، ثم للمجموعة ككل، إذ يعود تاريخها من القرن السادس إلى الثالث قبل الميلاد، وتُمثل تسلسل ملوك صيدا ووصاياهم الأخيرة.
كما يجب أن نُضيف إلى ذلك قيمتها التراثية والتعليمية: ألا ينبغي أن يكون للمواطن اللبناني حق الوصول إلى معرفة قبور أسلافه؟ هل وجب على صغار الصيداويِّين السفر إلى إسطنبول، باريس، أو نيويورك لرؤيتها؟
تتمتع هذه النواويس الملكية أيضاً بقيمة مقدّسة، غالباً ما تُنسى، على رغم من أنّ هذه القيمة محفورة في الحجر من قِبل الملك تابنيت الذي يظهر في المقام الأول ككاهن عشتروت.
وما عن قيمتها الرمزية والسياسية، لأنّ انتهاك مسكن الموتى يُعتبَر أسوأ إذلال يمكن أن يوجّهه عدو أو حاكم. إذ أنّ ألباب العالي في اسطنبول قد أكّد سلطته على سكّان الساحل الفينيقي المتمرّد من خلال إفراغ نعش ملكي ونقل محتوياته إلى عاصمة السلطة العثمانية.
وأخيراً لنُذكّر أيضاً قيمتها السياحية، التي يُحرَم منها لبنان على رغم من أنّها ثروته الرئيسية.
الملوك المنسيّون
لكن عثمان حمدي بك لم يكن عديم الإحساس، وهو يُعبِّر عن انزعاجه أمام دهشة الصيدونيِّين المتجمعين على الموانئ أثناء شحن هذه الآثار الرائعة التي خرجت من أعماق صيدون، وكانوا قد علِموا بها للتو. هل كانوا يتوهّمون لمشاهدة أسلافهم في المظهر الذي تتوالى من خلاله، واحداً تلو الآخر، ناووس النساء الباكيات، المرزبان، الليقي أو الإسكندر؟
إذا كان استخدام الأسماء المستعارة مبرّراً عندما نكون في جهل تام بمحتوى أثري، فإنّه في النهاية يؤدّي إلى غموض انتمائه الحقيقي. ألا يَحين الوقت لتسمية هذه التُحَف بأسمائها الأصلية، بما أنّ الخبراء قد أكّدوا هويّتها؟ دعونا نتحدّث عن نواويس الملوك بعنا، بعلشيلم الثاني، عبد أشترت الأول، وعبد الونيم. إنّ جعل أسمائهم معروفة هي أفضل وسيلة لإعادة تأهيل هؤلاء الملوك.
إنّهم يستحقون مكانتهم في كتب التاريخ والفن، على الأقل من أجل الروائع التي تركوها للبشرية. لأنّه إذا كانت الانتقائية في مجموعة هذه النواويس، وكذلك الانتقائية في كل عنصر يؤلّفها، قد أدهشت الكثير في البدء، فإنّها، على العكس، هي التوقيع الخاص بالفنّ الفينيقي المتنوّع بطبيعته.
وهكذا، فإنّ أبو الهول الفينيقي الذي يُستخدم في التفاصيل الزخرفية، على رغم من أنّه مستوحى من مصر، إلّا أنّه يظلّ مختلفاً لأنّه مؤنّث، على عكس المصري. إنّ التطوّر هنا من الناووس الأنثروبوي المصري، إلى الناووس الهيليني، مروراً بالفارسي، يعكس التأثيرات المتنوّعة والهَيمنة الأجنبية التي تتابعت على مدينة صيدا. في النهاية، إنّه تاريخها المصوّر، منذ النهضة المصرية السايتية، حتى الفتح الإسكندري. فهل مكانه الشرعي في إسطنبول؟