يقف لبنان عند مفترق طرق يتخبّط بين ألغام الداخل والخارج، تُغطّيها سحابة كثيفة من القلق والمخاوف ممّا هو كامن له من احتمالات صعبة في «مثلث مخاطر كبرى»، يتمَوضع في ضلعه الأول واقع داخلي هشّ وفي أعلى درجات الغرق في وحل الإنقسام والإحتقان السياسي وغير السياسي، ومفتوح على معارك بالجملة والمفرّق - بين مكوّنات تدرّجت من الخصومة في ما بينها إلى العداوة الشرسة والرغبة في الإلغاء - ليس فقط حول البديهيات والأساسيات، بل حتى على أتفه الأمور الشكلية والثانوية، وأقرب المعارك القاسية منتظرة على حلبة الانتخابات النيابية والخلاف الجوهري على شكل القانون الانتخابي وجوهره. وفي الضلع الثاني يتمَوضع جمر يزداد اشتعالاً تحت رماد قرار الحكومة بسحب سلاح «حزب الله»، وسط ترجيحات وأقاويل من مصادر متعدّدة في الداخل والخارج، بأنّ الجمود الذي يعتري هذا الملف لا يعدو أكثر من استراحة موقتة، وإعادة تحريكه مسألة وقت ليس بطويل. وأمّا على الضلع الثالث، فيتمَوضع الخطر الأكبر، الذي تشكّله الحرب الإسرائيلية المفتوحة التي تتعاظم الخشية من أقدام إسرائيل على رفع وتيرة إعتداءاتها على لبنان وتوسيع دائرة التصعيد، على ما حصل خلال الأيام الأخيرة.
مشهد لا يبشّر
المشترك في مثلّث المخاطر التي تتهدّد البلد، هو أنّ لا مخارج طوارئ منه إلى واحة بحدّ أدنى من الأمان والاستقرار. وعلى ما يقول مرجع كبير لـ«الجمهورية»، فإنّ «المشهد العام لا يبشّر على الإطلاق، ويبعث على التشاؤم أكثر من أي وقت مضى. فالخطر أكبر ممّا نتخيّل، وليس لنا أمام الأفق المسدود إلّا الدعاء اللهمّ لا نسألك ردّ القضاء وإنّما اللطف فيه».
ويبدي المرجع عينه «قلقاً بالغاً» ويقول: «الاحتمالات الصعبة هي أقل ما يمكن تقديره في هذه الأجواء، وخصوصاً أنّها ليست متأتية من جانب واحد، بل من الداخل والخارج في آنٍ معاً. فلبنان تُشنّ عليه حربان مفتوحتان؛ حرب مفتوحة تشنّها إسرائيل باعتداءاتها واغتيالاتها متوازية ومتزامنة مع ضغوط خارجية كبيرة من حلفائها، وحرب مفتوحة من داخلنا على داخلنا، تساهم قصداً أو غير قصد بمفاقمة الخطر. فمكوّناته في غالبيتها مع الأسف منكفئة عن لعب دورها المطلوب في هذه المرحلة، بالحدّ الأدنى من الوحدة والتكاتف، إن لم يكن لصدّ الاحتمالات الصعبة، فللتخفيف من وطأتها، والأسوأ من ذلك، أنّها منهمكة في الرقص على حافة الهاوية، ومراكمة عوامل التفريق وتعميق الإنقسام وبناء متاريس الإشتباك والتحريض السياسي وحتى الطائفي والمذهبي. بتنا في واقع مخجل، وحال بلدنا كحال زوجَين مختلفَين على لون البراد أو على مستوى الملوحة في الطعام، فيما بيتهما تتهدّده العواصف بأن يتهدّم وينهار».
أبعاد التصعيد الإسرائيلي
إلى ذلك، أسئلة كثيرة حامت في الأجواء في الساعات الأخيرة حول التصعيد الإسرائيلي الأخير والعمليات العدوانية التي طالت العديد من القرى والبلدات الجنوبية، وما إذا كان ذلك تمهيداً لتصعيد أكبر وأوسع، في وقت تغرق فيه الأجواء بسيناريوهات مقلقة تضخّها بعض المنصّات والقنوات ومواقع التواصل الإجتماعي، تغلّب احتمال قيام إسرائيل بشن حرب واسعة باتت وشيكة على لبنان.
وإذا كانت بعض التقديرات والتحليلات قد أدرجت تلك السيناريوهات في خانة اللعب على العامل النفسي وإبقاء المناخ الشعبي في حال من القلق والإرباك، إلّا أنّها تلاقت في المقابل مع رأي ديبلوماسي غربي عبّر عنه سفير دولة أوروبية معنية بالشأن اللبناني بقوله لـ«الجمهورية»، «إنّ احتمال الحرب يبقى قوياً جداً طالما أنّ أسباب التوتر ما زالت قائمة، وأبرزها عدم الإلتزام حرفياً بمندرجات القرار 1701 وباتفاق وقف العمليات العدائية المعلن في تشرين الثاني من العام الماضي، وهذه الحرب بالتأكيد ضررها كبير جداً على أطرافها، ولن تكون في مصلحة أي منهم».
وفي السياق نفسه، تندرج قراءة أحد الخبراء العسكريِّين، الذي أكّد لـ«الجمهورية» أنّ «الحرب الإسرائيلية على لبنان لم تتوقف ليُقال إنّها قادمة وفق ما يفترض بعض المحلّلين. فما يجري حتى الآن هو أنّ إسرائيل تعتبر لبنان إحدى الخواصر الرخوة، وأعطت لنفسها حرّية الحركة فيه من دون أي رادع لها، سواء من قِبل الدولة اللبنانية، أو من الدول الراعية لاتفاق وقف إطلاق النار، أو من «حزب الله» المنكفئ حالياً إلى ما خلف جبهة القتال، ويُقال إنّه متموضع في ما تُسمّى زاوية «التضليل الاستراتيجي». الوضع الحالي المستمر منذ إعلان واتفاق وقف إطلاق النار في تشرين الثاني الماضي هو الأفضل لإسرائيل، لكن لا أحد ضامناً بأنّ هذا الوضع سيستمر إلى ما لا نهاية، فالإحتمالات كثيرة وقد تحصل تطوّرات ليست في الحسبان».
واعتبر الخبير العسكري، أنّ التصعيد الإسرائيلي الأخير، بالأمكنة التي استهدفها، هو من جهة محاولة لإبقاء المنطقة الجنوبية، في حالة من اللا أمن، في سياق الهدف الذي حدّدته إسرائيل بإقامة المنطقة العازلة جنوب النهر، ومن جهة ثانية، قد يُعتبر رسالة قلقة من أنّ «حزب الله» قد قطع شوطاً مهمّاً في إعادة ترميم قدراته، والواضح الأكيد في هذا السياق هو أنّ إسرائيل تفتقد لبنك أهدافها الحقيقية لدى «حزب الله»، وخصوصاً مخازن السلاح، التي لو أنّها عالمة بأمكنتها لما توانت لحظة عن قصفها وتدميرها، ولذلك قد يندرج هذا التصعيد في سياق الضغط بالنار والقوة على الدولة اللبنانية لوضع قرار سحب سلاح الحزب موضع التنفيذ السريع».
إسرائيل تريد التطبيع
وسألت «الجمهورية» مسؤولاً رفيعاً عن التطوّرات الأخيرة، فلفت إلى أنّه قبل وصول أي موفد أميركي سواء أكان مورغان أورتاغوس أو توم برّاك أو غيرهما، تلجأ إسرائيل إلى تصعيد، وهذا ما حصل مع زيارة أورتاغوس المقرّرة إلى لبنان نهاية الأسبوع الجاري.
وأضاف: «بمعزل عن زيارة أورتاغوس، واجتماعات لجنة «الميكانيزم» التي لا تتسمّ بأي فعالية أو جدّية في ما يتعلّق بدورها بمراقبة تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار، فإنّ إسرائيل ماضية في عدوانها، وتحظى بتغطية كاملة لها، لفرض القواعد التي تريدها والشروط التي تُحقّق مصلحتها، وهدفها الاستراتيجي هو جرّ لبنان إلى التطبيع معها بالقوّة، فقد تتصاعد الأمور وهذا أمر لا يمكن لأحد التكهن بمداه، حيث قد تأخذنا الوقائع المتدحرجة إلى واقع جديد، ولكن الخلاصة اليقينية لكل ما قد يحصل هو أنّه لن يكون هناك تطبيع مع إسرائيل أو خضوع لإرادتها».
اتصالات
يُشار في سياق التصعيد الإسرائيلي، أنّ الفترة السابقة للإعتداءات الإسرائيلية الأخيرة على عدد من البلدات اللبنانية، شهدت حركة اتصالات مكثفة على مستويات رسمية وأمنية مختلفة مع قيادة قوات «اليونيفيل»، وكذلك مع رئاسة لجنة «الميكانيزم». وبحسب مصادر موثوقة لـ«الجمهورية»، إنّ «الجانب اللبناني تلقّى من اللجنة الخماسية وعداً بالتواصل مع الإسرائيليِّين، إلّا أنّ هذا الوعد لم يحل دون تنفيذ إسرائيل لعدوانها».
وكانت قيادة «اليونيفيل» قد اعتبرت في بيان أمس، «أنّ الغارات الجوية
الإسرائيلية التي استهدفت مناطق في جنوب لبنان تُعدّ انتهاكاً واضحاً وصريحاً لقرار مجلس الأمن رقم 1701، وتُشكّل تهديداً مباشراً للاستقرار الهش الذي تحقق في تشرين الثاني من العام الماضي. كما أنّها تقوّض ثقة المدنيِّين في إمكانية التوصّل إلى حل سلمي لهذا النزاع».
ودعت «اليونيفيل» الجيش الإسرائيلي إلى «التوقف الفوري عن شنّ أي غارات إضافية، والإلتزام بالانسحاب الكامل من الأراضي اللبنانية». كما أكّدت ضرورة أن يلتزم جميع الأطراف بتجنّب أي انتهاكات أو خطوات من شأنها أن تؤدّي إلى تصعيد إضافي. ودعت «جميع الأطراف إلى الالتزام الكامل بأحكام قرار مجلس الأمن رقم 1701، وبتفاهم وقف الأعمال العدائية، إذ إنّ هذه الآليات وُضِعت خصّيصاً لمعالجة الخلافات وتجنّب اللجوء إلى العنف من جانب واحد، ويجب الاستفادة منها إلى أقصى الحدود. كما يشكّل استمرار التصعيد تهديداً للتقدّم الذي أحرزته الأطراف في جهودها لاستعادة الاستقرار».
المستجدات بين الرئيسَين
وكانت المستجدات الأخيرة في ضوء الإعتداءات الإسرائيلية على الجنوب والبقاع، محور تداول بين رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون، ورئيس الحكومة نواف سلام، وأيضاً بين رئيس الجمهورية وقائد الجيش العماد رودولف هيكل. ويأتي ذلك قبل سفر رئيس الجمهورية اليوم إلى نيويورك لترؤس وفد لبنان إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة.
سحب السلاح
في سياق متصل، أكّد مصدر سياسي وثيق الصلة بالأميركيِّين لـ«الجمهورية»، أنّ «قرار سحب سلاح «حزب الله» أولوية أميركية ولا رجعة فيه». ويؤكّد المصدر نقلاً عن مسؤولين أميركيِّين «إنّ واشنطن ستواصل الضغط على لبنان لنزع سلاح «حزب الله»، باعتبار أنّ هذا الأمر يُشكّل ضرورة أمنية سواء بالنسبة إلى لبنان أو لإسرائيل. وهي الآن تضع الحكومة اللبنانية تحت الإختبار الموقت، ولا تُبرّر التباطؤ في تنفيذ قرار الحكومة تحت أي ظرف كان».
قاسم: صفحة جديدة
إلى ذلك، إعتبر الأمين العام لـ«حزب الله» الشيخ نعيم قاسم في الاحتفال المركزي الذي أقامه الحزب أمس في «مجمّع سيّد الشهداء» في الضاحية الجنوبية لبيروت» في ذكرى القيادي في الحزب ابراهيم عقيل ورفاقه: «بعد الضربة الإسرائيلية في قطر اتضح كل شيء. وهنا لا بُدّ أن نقوم بالتغيير، بعد الضربة فإنّ الاستهداف أصبح للمقاومة والأنظمة والشعوب وكل عائق جغرافي وسياسي أمام إسرائيل الكبرى، والهدف أصبح فلسطين، لبنان، الأردن، مصر، سوريا، العراق، السعودية، اليمن وإيران. ولذلك، علينا جميعاً أن نواجه هذا الخطر، كدول، وأنظمة، وشعوب ومقاومة، والطريق الوحيد لهذه المواجهة أن نتوحّد ضدّ العدو المشترك في حدود للوحدة».
وأكّد على «وجوب أن تكون إسرائيل هي الخطر وليس المقاومة. أدعو السعودية إلى فتح صفحة جديدة مع المقاومة ضمن حوار يعالِج الإشكالات ويُجيب عن المخاوف ويؤمّن المصالح، وضمن حوار مبني على أنّ إسرائيل هي العدو وليست المقاومة، وضمن حوار يُجمّد الخلافات التي مرّت في الماضي، وإنّنا نؤكّد لكم (للسعودية) أنّ سلاح المقاومة وجهته العدو الإسرائيلي وليس لبنان ولا السعودية ولا أي مكان ولا أي جهة في العالم».
وشدّد على أنّ «الضغط على المقاومة هو ربح صافٍ لإسرائيل»، ودعا «كل مَن في الداخل اللبناني حتى الذين وصلت الخصومة بيننا وبينهم إلى ما يقرب العداء، إلى عدم تقديم خدمات لإسرائيل. نحن نبني معاً في الحكومة وفي المجلس النيابي، ومن هنا فليكن هذا المسار مساراً مدعّماً بتفاهمات تساعد على أن نقطع هذه المرحلة ولا نؤدّي خدمة لإسرائيل. فلنكن يداً واحدة لطرد إسرائيل وبناء لبنان، ونجري الانتخابات النيابية في موعدها وتضع الحكومة بند الإعمار كأولوية وتسرّع عجلة الإصلاح المالي والاقتصادي وتكافح الفساد، ونتحاور بإيجابية لإستراتيجية الأمن الوطني».