مع إعلان «آبل» عن نسختها الجديدة من هواتف «آيفون»، يستعد المستهلكون لتحديثات شكلية لا تتجاوز بعض التحسينات في التصميم والوزن. لكن خلف هذه الدورة المتكرّرة من الترقيات السنوية، يترسّخ شعور لدى كبار اللاعبين في صناعة التكنولوجيا بأنّ الهاتف الذكي، الذي سيطر على حياتنا اليومية منذ أكثر من عقد ونصف، قد يكون في طريقه إلى فقدان مركزيّته، لصالح حقبة جديدة يقودها الذكاء الاصطناعي.
يرى خبراء وقياديّون أنّ المساعدات الذكية المتطوّرة، التي تتجاوز بكثير مساعدات الصَوت التقليدية مثل Siri، مرشحة لأن تصبح «نظام التشغيل» الفعلي لأجهزة الحَوسبة الشخصية، متقدّمةً بذلك على البرمجيات والتطبيقات التي حكمت تجربة المستخدم لعقود.
فبفضل قدرتها على تنفيذ المهام نيابةً عن المستخدم، مثل ترتيب المواعيد، إعداد قوائم التسوّق، أو تدوين الملاحظات في الاجتماعات، ستتراجع الحاجة إلى التنقل بين القوائم أو الطباعة على الشاشات.
لخّص الأمر أليكس كاتوزيان، المسؤول عن المنتجات المحمولة في شركة «كوالكوم»، قائلاً: «الأنظمة والتطبيقات التي اعتدنا تشغيلها على الهواتف ستختفي تدريجاً في الخلفية، فيما سيتولّى المساعد الذكي القيام بالمهام مباشرة».
لكنّ المستقبل لا يقتصر على الذكاء الاصطناعي المدمَج داخل الهواتف. بعض الرؤى تذهب أبعد، متوقعةً بروز أجهزة شخصية جديدة مثل نظّارات أو أساور مدعومة بالذكاء الاصطناعي، قادرة على التفاعل مع محيطنا باستمرار، لترافقنا وتساعدنا طوال اليوم. وهنا يُطرَح السؤال الكبير: ما الجهاز الذي سيخلف الهاتف الذكي؟
النظّارات الذكية
كتب مارك زوكربيرغ، مؤسس «ميتا»، في رسالة إنّ «النظارات التي ترى ما نراه وتسمع ما نسمعه وتتفاعل معنا طوال اليوم، ستُصبح جهاز الحوسبة الأساسي». حُلم النظّارات الذكية ليس جديداً؛ فمنذ عقود يسعى المهندسون إلى دمج شاشات رقمية داخل العدسات، تتيح للمستخدم الاطّلاع على معلومات فورية حول الأشخاص والأماكن. هنا، يلعب الذكاء الاصطناعي الدور المحوَري: يمكن التحدّث إلى النظّارة كما لو كانت صديقاً، تطلب منها تفسير ما تراه أو تزويدك بمعلومة لحظية. قطعت «ميتا» خطوات عملية عبر تحديث نظّاراتها Ray-Ban Meta العام الماضي، بإضافة مساعدها Meta AI، القادر على الإجابة عن أسئلة متصلةً بالمشهد أمام المستخدم. كما عرضت الشركة نموذجاً أولياً يدعى Orion، يضمّ شاشات داخلية صغيرة لعرض ملاحظات أو بيانات أثناء الاجتماعات.
في المقابل، قدّمت «غوغل» نموذجاً مشابهاً مدعوماً بمساعدها Gemini. ومع ذلك، يتوقع خبراء أنّ النسخ المزوّدة بشاشات لا تزال بعيدة زمنياً، بسبب تحدّيات مثل عمر البطارية وتصميم يناسب جميع الوجوه، فيما ستستحوذ النظّارات البسيطة الخالية من الشاشات على السوق، خلال العامَين المقبلَين.
الحَوسبة المحيطة
يرى بانوس باناي، رئيس قسم الأجهزة في «أمازون»، أنّ «القوّة الحقيقية تكمن في عدم الحاجة إلى إخراج شيء من جَيبك». يقصد بذلك «الحَوسبة المحيطة»، أي شبكة من الأجهزة الموزّعة في المنزل أو المكتب: مكبّرات صَوت مزوّدة بميكروفونات، شاشات ذكية، وأدوات قابلة للارتداء.
منذ سنوات، عملت «أمازون» على هذا التصوّر عبر سلسلة Echo، ومع إدماج تقنيات الذكاء الاصطناعي الجديدة مثل Alexa+ أصبح بالإمكان إجراء محادثات طبيعية مع المساعد الرقمي للحصول على إجابات أو تنفيذ مهام بسهولة أكبر ممّا يوفّره الهاتف.
المثال الذي يُقدّمه باناي: طرح سؤال على المساعد أثناء حوار عائلي على المائدة، من دون الحاجة إلى قطع النقاش والتوجّه إلى الشاشة. مع ذلك، يُشدِّد باناي على أنّ الهواتف لن تختفي، تماماً كما لم تختفِ الحواسيب المحمولة بعد ظهور الهواتف الذكية.
إعادة ابتكار الساعة الذكية
يعترف كارل باي، الرئيس التنفيذي لشركة Nothing، التي تنتج هواتف ذكية، بأنّه كان يعتقد حتى وقت قريب أنّ المستقبل سيظل للهواتف. لكنّ تسارع الذكاء الاصطناعي غيّر موقفه، وهو يطرح اليوم فكرة «إعادة اختراع الساعة الذكية».
تتميز الساعة، بحسب باي، بأنّها مألوفة وغير مزعجة للآخرين، تبقى على المعصم طوال الوقت، وتُباع منها أكثر من 100 مليون وحدة سنوياً. سيجعل الذكاء الاصطناعي كل ساعة «فريدة» تبعاً لاستخدام مالكها: للرياضيِّين تتبُّع تلقائي للنشاط البدني؛ لرجال الأعمال إدارة ذكية للمواعيد والمهام. ويُضيف: «الحَوسبة اليوم لا تزال يدوية للغاية. مجرّد ترتيب لقاء مع صديق قد يتطلّب 3 تطبيقات مختلفة. لكنّ المساعد الذكي على الساعة سيقوم بكل ذلك تلقائياً».
جهاز التسجيل الذكي
يطرح دان سيروكر، الرئيس التنفيذي لشركة Limitless AI، رؤية أكثر جذرية: جهاز قابل للارتداء يُسجّل محادثاتنا باستمرار، ليمنحنا «ذاكرة مثالية». فبحسب الدراسات، الإنسان ينسى ما بين 80 إلى 90% من تفاصيل أسبوع مضى. ماذا لو أمكننا الاحتفاظ بكل شيء؟
طوّرت شركته قلادة صغيرة تُسجّل وتحوّل الكلام إلى نصوص، ثم يقترح المساعد الذكي كيف نستفيد منها. قد يُذكّرك، مثلاً، بأنّك وعدتَ زميلاً بإنجاز مهمّة ولم تفعل، أو يقترح أسلوباً أفضل للتعامل مع أطفالك استناداً إلى مواقف سابقة التقطها. غير أنّ هذا السيناريو يُثير تساؤلات جدّية حول الخصوصية. ويرى ديف إيفانز، المصمِّم السابق في «آبل» و»سامسونغ»، أنّ أجهزة تستمع دائماً تناسب بيئات العمل أكثر من الحياة الخاصة، حيث الاعتبارات الأخلاقية أكبر.
نحو «سمفونية ذكاء اصطناعي»
على رغم من التبايُن بين هذه الرؤى، يجمعها هدف واحد: خلق منظومة من الأجهزة القابلة للارتداء والمتصلة بالذكاء الاصطناعي، لترافق الإنسان في يومياته، أشبه بما وصفه أحد مصمِّمي «غوغل غلاس» قبل عقد بـ»سمفونية من الذكاء الاصطناعي».
فالفكرة ليست أن تحمل جهازاً واحداً محورياً كما هو الحال مع الهاتف الذكي، بل أن ترتدي مجموعة أدوات (نظّارة، ساعة، قلادة) تبدو عادية وأنيقة، لكنّها متصلة وذكية في آنٍ.
فشلت التجارب السابقة مثل «غوغل غلاس» لاعتبارات تتعلق بالمظهر والتصميم. أمّا اليوم، فيبدو أنّ السباق يتّجه إلى جيل جديد من الأجهزة الأنيقة، يَعِدُ بتحويل علاقتنا بالتكنولوجيا جذرياً، وربما إعلان بداية أفول عصر الهاتف الذكي.