بعد اكتشاف دخول 19 طائرة مسيّرة إلى الأجواء البولندية، والتي أُطلقت باتجاه بولندا فجر 10 أيلول، حاولت روسيا في البداية التهرّب من تقديم تفسير واضح، إلّا أنّها عادت لاحقاً لتُعلن أنّ "التشويش الإلكتروني" هو السبب في انحراف هذه المسيّرات عن أهدافها الأصلية.
جاء هذا التطوّر بعد تعرّض الأجواء الأوكرانية لهجوم جوي روسي واسع النطاق في الليلة عينها، ممّا أثار تساؤلات عديدة حول نوايا موسكو الحقيقية، وحول ما إذا كانت هذه الحادثة قد تدفع حلف الناتو نحو مواجهة عسكرية محتملة مع روسيا.
إلّا أنّ الخبراء والمراقبين لا يرَون أنّ روسيا مستعدّة في الوقت الراهن لخوض مواجهة مفتوحة مع الناتو، خصوصاً في ظل استمرار الحرب الروسية -الأوكرانية وتعقيداتها، كما أنّهم لا يعتقدون أنّ موسكو تسعى إلى توسيع رقعة الحرب نحو مواجهة مباشرة مع الغرب.
من جهته، تعامل الناتو مع الحادثة بردّ فعل محسوب، يغلب عليه طابع الحذر والقلق، من دون اتخاذ خطوات تصعيدية مباشرة، وإن كانت بعض دوله بدأت باتخاذ احتياطات عسكرية إضافية.
كل هذا يُشير بوضوح إلى أنّ العلاقة بين روسيا والغرب لم تعُد كما كانت في فترة الانفراج التي سادت تسعينات القرن الماضي. بل باتت تتّجه نحو مزيد من الصعوبة والاحتقان، وسط تصعيد سياسي وعسكري مستمر، قد يضع المنطقة أمام احتمالات أكثر خطورة في المستقبل القريب.
بدايات التوتر: من الثورة البرتقالية إلى حرب جورجيا
فمنذ بدايات الألفية الثالثة، بدأت العلاقة بين روسيا وحلف شمال الأطلسي (الناتو) تأخذ منحى مختلفاً عن طابع التعاون الذي ساد لفترة بعد سقوط الاتحاد السوفياتي. كانت الأحداث السياسية في أوكرانيا، وخصوصاً الثورة البرتقالية عامَي 2004 و2005، من أولى المحطات التي أشعلت فتيل التوتر. فقد رأت موسكو في تلك الثورة انتزاعاً تدريجياً لأوكرانيا من مجال نفوذها التقليدي، فاعتبرته تهديداً مباشراً لأمنها الاستراتيجي.
لكنّ الشرارة الأكبر جاءت لاحقاً، حين اندلعت الحرب بين روسيا وجورجيا في آب 2008. فهذه الحرب لم تكن مجرّد نزاع إقليمي، بل رسالة صريحة من موسكو ضدّ محاولات الناتو التوسع شرقاً، تحديداً في جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابقة. ومع أنّ العلاقات توترت، إلّا أنّ القطيعة لم تكن قد اكتملت بعد.
مِن ضمّ القرم إلى قطيعة مفتوحة: مرحلة التصعيد الكامل
وقع التحوّل الجذري، عندما ضمّت روسيا شبه جزيرة القرم من أوكرانيا، ما دفع الناتو في الأول من نيسان 2014 إلى اتخاذ قرار جماعي بتعليق جميع أشكال التعاون العملي مع موسكو. ومنذ تلك اللحظة، دخل الطرفان في مرحلة من التوتر العلني والمفتوح، لم يسبق لها مثيل منذ انتهاء الحرب الباردة.
في كانون الأول، أعلنت روسيا عن تبنّي عقيدة عسكرية جديدة صنّفت فيها الناتو كأحد أبرز التهديدات لأمنها، بسبب اقترابه المتزايد من حدودها. أمّا الناتو، فردّ خلال قمّته في تموز 2016 بتصنيف روسيا رسمياً على أنّها التهديد الرئيسي لدوله الأعضاء، مع اعتماد برنامج واسع لتطوير القدرات الدفاعية، خصوصاً في مجال الأمن السيبراني.
عام 2018 شهد المزيد من التصعيد، إذ تحدّث الناتو عمّا وصفه بـ"الأنشطة الاستفزازية الروسية" قرب حدوده، خصوصاً في البحر الأسود وبحر البلطيق، بالإضافة إلى إدانته لحادثة تسميم العميل الروسي السابق سيرغي سكريبال وابنته في بريطانيا، محمّلاً روسيا المسؤولية المباشرة.
ومع حلول عام 2019، أصبح من الواضح أنّ الحوار بين الجانبَين قد انتهى فعلياً. وصرّح وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في إحدى المناسبات، بأنّ الناتو أصبح يُركّز فقط على "المسألة الأوكرانية"، الأمر الذي ترفض موسكو مناقشته ضمن هذا الإطار. واستمرّت الهوّة بين الطرفَين في الاتساع.
في آذار 2021، عقد وزراء خارجية الناتو اجتماعاً وجّهوا فيه اتهامات مباشرة لروسيا بزعزعة استقرار الدول المجاورة، وأكّدوا أنّ فُرَص تحسين العلاقات أصبحت شبه معدومة في المستقبل القريب. وفي آذار 2021، طرد الحلف 8 دبلوماسيِّين روس من بعثته الدائمة، وخفّض عدد طاقمها إلى النصف، ما دفع موسكو إلى الردّ بتعليق عمل البعثة بالكامل ووقف أي اتصالات رسمية مع الحلف.
الحرب الروسية- الأوكرانية توسع الهوّة بين الطرفَين
جاءت الحرب الروسية- الأوكرانية في شباط 2022، لتزيد الطين بلّة. فالغزو الشامل لأوكرانيا لم يكن مجرّد تصعيد عسكري تقليدي، بل كشف عمق الخلافات السياسية والاستراتيجية بين روسيا والناتو، وجعل التهديدات اليومية المتبادلة بين الطرفَين واقعاً ملموساً.
ومع كل يوم من المعارك، كان يتضح أنّ الصراع تجاوز حدود أوكرانيا، وأصبح اختباراً مباشراً لقدرة الغرب على الردع، ولمدى استعداد موسكو لمواجهة ممتدة. وأصبحت الحرب بمثابة جدار فاصل بين مرحلتَين في تاريخ العلاقة، فلم تعُد هناك أي أرضية مشتركة للحوار، وصارت الاحتمالات العسكرية مطروحة بشكل دائم على الطاولة.
على خلفية هذا التصعيد، سارعت السويد وفنلندا في أيار 2022 إلى تقديم طلبات رسمية للانضمام إلى الناتو، ووُقِّع على بروتوكولات انضمامهما في تموز، على رغم من اعتراضَي تركيا وهنغاريا لاحقاً.
بحلول نيسان 2025، بدا المشهد قاتماً أكثر من أي وقت مضى. علناً صرّح رئيس الوفد الروسي في مفاوضات فيينا حول الأمن العسكري والحدّ من التسلّح، قسطنطين غافريلوف، أنّ العلاقات بين موسكو والناتو أصبحت "أسوأ من أيام الحرب الباردة". لم تعُد هناك قنوات تواصل حقيقية، وانعدمت فرص التفاهم أو الحوار.
وهكذا، تحوّلت علاقة كانت تُدار بالحذر والدبلوماسية، إلى صراع مفتوح يزداد تعقيداً يوماً بعد آخر. وما بين اتهامات بالتوسع من جهة، وردود فعل عسكرية وتحرّكات استخباراتية من جهة أخرى، تقِف أوروبا اليوم على حافة تحوّلات جيوسياسية كبرى، لا أحد يستطيع الجزم بمآلاتها.
ما بدأ كمشروع شراكة في التسعينات تحوّل اليوم إلى صراع مفتوح واتهامات متبادلة. توسّع الناتو شرقاً، ردود روسيا العسكرية، وتفاقم الوضع في أوكرانيا، كلّها عوامل ساهمت في الوصول إلى هذا المنعطف الحرج في العلاقات الأوروبية- الروسية. واليوم، مع تزايد التوترات الحدودية وحوادث اختراق الأجواء، يبدو أنّ المنطقة تعيش على حافّة مواجهة أوسع لا يمكن التنبّؤ بمآلاتها.