التاريخانية الغائبة: مأزق التفكير العربي أمام المشروع الصهيوني
التاريخانية الغائبة: مأزق التفكير العربي أمام المشروع الصهيوني
د. علي محمود الموسوي
Tuesday, 16-Sep-2025 07:09

منذ ما قبل بدايات القرن العشرين، اعتمد المشروع الصهيوني على تخطيط استراتيجي طويل المدى، بينما ظلّ الأداء العربي محكوماً بردود الفعل والتخبّط اللحظي. هذا الفارق تكرّس في التاريخ الحديث، ونتائجه ما زالت تهيمن على الواقع السياسي والاجتماعي في المنطقة.

أولاً: الجذور التاريخية للفارق

 

تعود جذور الفارق بين التخطيط والتخبّط إلى نشأة الحركة الصهيونية نفسها. فمنذ مؤتمر بازل 1897، وضعت الحركة لنفسها هدفاً واضحاً: إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين. لتحقيق هذا الهدف، أُنشئت مؤسسات استيطانية واقتصادية وتعليمية، وبدأت عمليات شراء الأراضي وتنظيم الهجرة بشكل متماسك. هذه الخطوات لم تكن عشوائية، بل محكومة برؤية استراتيجية تتجاوز الجيل الواحد.

 

على الضفة الأخرى، كان الواقع العربي يعيش انقسامات ما بعد سقوط الدولة العثمانية. فالدول الحديثة تشكّلت بإرادة استعمارية أكثر مما تشكّلت بمشروع وطني جامع. لذلك، ورغم بروز حركات مقاومة وجهاد محلية، فإنّها افتقدت للتنسيق والرؤية الطويلة المدى، وغلب عليها الطابع الانفعالي والجزئي.

 

ثانياً: التفسير السوسيولوجي والسياسي

 

يمكن الاستفادة من أطروحة ماكس فيبر حول "العقلنة المؤسسية" لتفسير هذا الفارق. فالمجتمع الذي يبني مؤسسات قادرة على الاستمرارية يتجاوز إرادة الأفراد، بينما المجتمع الذي يظل أسير الزعامات الفردية يظلّ هشّاً. في السياق العربي، تحولت الدولة الحديثة غالباً إلى جهاز ريعي يعتمد على توزيع الموارد، بينما ظلّ المشروع الصهيوني مشروعاً إنتاجياً، يستثمر في الاقتصاد والتعليم والبحث العلمي.

 

يضيف عبد الله العروي في نقده للعقل العربي، أنّ غياب "التاريخانية" ـ أي الوعي بالسيرورة التاريخية ـ جعل التفكير العربي ينحصر في اللحظة الآنية أو في استدعاء ماضٍ مثالي، بدل أن يتوجّه الى بناء المستقبل على أسس علمية. هذا ما جعل العرب يعيشون أزمات متكرّرة من دون تراكم خبرة مؤسسية، فيما راكم المشروع الصهيوني خبراته خطوة بعد خطوة.

 

ثالثاً: البعد الثقافي والمعرفي

 

إلى جانب البنية السياسية، هناك بعد ثقافي ومعرفي. فالمجتمعات التي تخطط هي مجتمعات تنتج معرفة وتنظّمها. الصهيونية، رغم بعدها الاستيطاني الاستعماري، استثمرت في الجامعات ومراكز الأبحاث لتوجيه القرار السياسي والعسكري. في المقابل، ظلّت البنية المعرفية العربية غالباً أسيرة الأيديولوجيا أو الخطاب التعبوي، وهو ما أشار إليه أنطون سعادة في نقده للخطاب العربي الذي ظلّ غارقاً في "الارتجال والعاطفية"، على حساب "التنظيم العلمي القومي".

 

من جهة أخرى، طرح سمير أمين فكرة "التبعية" ليشير إلى أنّ التخبّط العربي مرتبط باندماج مشوّه في النظام الرأسمالي العالمي. فبدل أن يكون هناك مشروع مستقل، بقيت الاقتصادات العربية مرتهنة بالتصدير الخام والاعتماد على الخارج في التكنولوجيا والمعرفة. وهذا جعل السياسات تتأثر دوماً بتقلّبات السوق العالمي أكثر مما تنطلق من استراتيجية وطنية أو قومية.

 

رابعاً: تجليات الفارق في الحاضر

 

يتجلّى هذا الفارق بوضوح في المحطات الكبرى. بعد حرب 1948، استثمر الكيان الصهيوني الهزيمة في تعزيز بناء مؤسساته، بينما تحوّلت الهزيمة العربية إلى جدل داخلي وإلى انقلابات عسكرية. حرب 1967 كانت بالنسبة لإسرائيل فرصة لإعادة رسم الخرائط وإطلاق مشروع الاستيطان الواسع، بينما كانت للعرب صدمة أدّت إلى انقسام التيارات السياسية وظهور نزاعات إيديولوجية حادة. حتى حرب 1973 التي بدأت بانتصار ميداني عربي، تحولت لاحقاً إلى مفاوضات منفردة واتفاقيات جزئية عكست غياب رؤية موحدة.

 

اليوم، نرى استمرار النمط نفسه. إسرائيل تستثمر في التكنولوجيا الفائقة، في الأمن السيبراني، في شبكات اللوبي الدولية. بينما يعيش العرب أزمات داخلية، من حروب أهلية إلى نزاعات طائفية، تجعل التخطيط بعيد المدى أقرب إلى الترف الفكري.

 

خامساً: سبل تجاوز الفجوة

 

لا يعني هذا أنّ التخبط قدر لا يُتجاوز. بل يمكن للعرب أن يحوّلوا موقعهم إذا استثمروا في ثلاث دوائر أساسية:

 

1. الدائرة المؤسسية: بناء مؤسسات سياسية واقتصادية مستقلة عن الأفراد والزعامات، قادرة على الاستمرارية والتراكم.

2. الدائرة المعرفية: الاستثمار في البحث العلمي والتعليم النوعي، بما يحوّل المعرفة إلى رافعة استراتيجية.

 

3. الدائرة الثقافية: إعادة بناء خطاب عقلاني تاريخاني، كما دعا العروي، يتجاوز العاطفية والشعارات الفارغة، ويؤسس لرؤية مستقبلية.

 

إضافة إلى ذلك، فإنّ تجاوز التبعية الاقتصادية كما أشار سمير أمين، وبناء اقتصاد منتج لا ريعي، هو شرط أساسي للتحرّر من التخبّط.

التاريخانية الغائبة: مأزق التفكير العربي أمام المشروع الصهيوني

بين التخطيط والتخبّط مسافة تحدّد مصير الشعوب. المشروع الصهيوني، على كل ما فيه من ظلم واستعمار، نجح لأنّه خطط على مدى أجيال. أما المشروع العربي فظلّ أسير اللحظة، يتخبّط في نزاعاته. إنّ استعادة زمام المبادرة لا تكون بالشعارات، بل بإرادة سياسية ومعرفية تبني مشروعاً يتجاوز الأفراد نحو المستقبل. وهذا وحده ما يمكن أن يحوّل العرب من أسرى ردّ الفعل إلى صانعي الفعل.

theme::common.loader_icon