عندما منحَ السيد حسن نصرالله الرئيس نبيه بري لقبَ الأخ الأكبر، كأنّما كان يُعلْنُ وصيَّةً إحتياطية لاحتمال استشهاده، مخافةَ أنْ يتركَ غيابُهُ فراغاً قيادّياً يعرّضُ الثنائي الشيعي للإهتزاز.
ومن صفاتِ الأخ الأكبر، أنْ يوازن بالعدل بين الأشقّاء على رغم من الإختلاف في طبيعة الولادة وخلفيّةِ المرجعية.
في ذكرى تغييب الإمام موسى الصدر، لا بدّ من التوقّف عندما كان للإمام في الشأن الوطني من بليغ الكلام طالما تردّدَ على قلَمِنا وسائر الأقلام، ما يقتضي أن يقتدي به الكثيرون في هذه الأيام.
خطاب الأستاذ في الذكرى، كان فيه منْ أدبِ المقام ما شاعَ على ألسنةِ أبطال المقامات عند بديع الزمان الهمذاني، التي تبتدئ بالأفكار الأدبية والخواطر الوجدانية، والنوادر والأقوال والأمثال، وتنتهي بالمواعظ والحكمة وتوقُّد الذكاء لتطويق المآزق.
وخطابُ بطلٍ مقامات الأستاذ، كمثل ما كان خطاباً ثنائيّاً يدمج تطلّعات الحزب والحركة، كان أيضاً بطلَ ثنائيةِ التوازنات: بين التزام الدستور والمواثيق الدولية وخطاب القَسَم والبيان الوزاري، وبين رفض حصرية السلاح إلّا بحوار وطني، ما دام نـزعُ هذا السلاح مرتبطاً بنزع الأرواح.
وحتى في اللجوء إلى الإسنادِ الخارجي، كأنّما كان هناك توازنٌ مستَتر بين الصواريخ البالستية والدبابة الإسرائيلية.
والأخ الأكبر، أستاذٌ أكبر في رمْيِ السهام بهدف مداواةِ الجراح بواسطة الإكتواء، وتضخيم الإستهداف بهدف الإحتواء، والدواء المرّ غالباً ما يكونُ العلاجَ الغالب للشفاء.
بهذا الخطاب استطاع الأخ الأكبر تطبيعَ قرار الحكومة، وردْعِها عن ارتكاب «خطيئة» حصرية السلاح، فتحوّلت الخطَّةُ من «ترحيب» إلى ترحيل، مثلما تولّى مواجهة «العقول الشيطانية»، لأنّ الشيطان «ليس لهُ سلطةٌ على الذين آمنوا...».
أمّا بعد، فننتظرُ من رئيس حركة أمل خطاباً آخر، يستلهم بهِ الآياتِ الوطنية للإمام الصدر، لمعالجة «التعقيدات» حول حصريةِ السلاح بالإقتناع لا بالإنتزاع والمداهمات، وإذ ذاك لا تعود مهمّة الجيش في حاجة إلى ازدياد عدد عناصره، بل إلى ازدياد عدد الشاحنات، بما يحول دون التورُّط الداخلي، والعزلة الدولية، والمواجهة القسرية مع إسرائيل.
أمّا عن طاولة الحوار فقد باتت تتخطَّى ما كان لسابقاتها من طاولات أشبه بالمقامرة بالميْسر، والميْسرُ في الكتاب محرّم.
لعلّنا نكون أكثر حاجة إلى حوار يتخطّى حصرية السلاح، إلى حصرية أخرى: هي حصرية سيادة لبنان والدفاع عن لبنان.
السيادة والدفاع: سلَّمٌ ثنائي ترتكز عليه عناصر وجود الدولة ووحدة شخصيّتها ووحدة شعبها.
لقد بلَغ النزاعُ حول مفهوم السيادة واحتكار السيادة كأنما هناك سيادتان: سيادة وطنية وسيادة مستوردة، سيادة عسكرية وسيادة دستورية، سيادة مسيحية وسيادة إسلامية، سيادة تتحقق بواسطة الدولة، وسيادة تتحقق بواسطة المقاومة.
السيادة المسيحية لجهة إسرائيل حسَمَها أخيراً البطريرك الماروني بشارة الراعي بالقول: «لا وجود للسيادة مع وجود الإحتلال الإسرائيلي...» وهو في ذلك يعبّر عن منتهى العقل المسيحي الراجح في سواده الأعظم.
ويبقى على العقل الإسلامي الراجح أن يحسم موضوع السيادة بالنسبة إلى الجهات الأخرى.
وحول موضوع الدفاع هناك أيضاً نزاع: بين مَن يرى أنّ الدفاع يرتبط بسلاح المقاومة، ومَن يرى أنّ الدولة من شأنها الدفاع عن الكيان ومكوّناته بسلاحها حصراً.
وهناك مَن يعتبر الخارج الإيراني أو العربي سنداً دفاعياً عن السيادة، وهناك مَن يعتبر الشيطان الأميركي الأكبر شراً لا بدّ منه لدرْءِ خطر الشيطان الأصغر.
وفي كلتا الحالتَين: عندما نضع أنفسنا في جهنّم فلا بدّ من التصادم مع الشياطين.
دولة الإستاذ:
إنّ دولة الرجل المريض، تنتظر منك خطاباً آخر لعلاجٍ آخر.