إختفاء الذات عن نفسها: انسحاب للمعنى من الحياة!
إختفاء الذات عن نفسها: انسحاب للمعنى من الحياة!
محمود القيسي
Wednesday, 10-Sep-2025 07:16

كتبت أول فنانة روبوت في العالم «آيدا» قصيدة تقول: «نظرنا عبر قصائدنا... مثل أسرى معصوبي الأعيُن، أُرسلوا للبحث عن النور؛ لكنّهم لم يرجعوا، لا بُدّ من إبرة وخَيط، لاستكمال الصورة، لمشاهدة المخلوقات البائسة، مثل صقور بعيون مغلقة».

نعم، قصيدة من آلة بلا قلب. عندما كانت «آيدا» تُلقي قصيدتها في حفل احتضنه متحف أشموليان الشهير في جامعة أكسفورد، كجزء من معرض لمناسبة الذكرى الـ700 لوفاة الشاعر الكبير «دانتي»، كان من السهل جداً على الحضور أن ينسى أنّها روبوت.

 

لسنوات عديدة صَوَّرت لنا أفلام الخيال العلمي أنّ الذكاء الاصطناعي غالباً ما يُستخدَم لأفلام الرعب، ومن المستحيل أن نربطه بأمور مثل الفن والشعر. وهذا بالضبط ما تقوم به Ai-Da، الروبوت «الواقعي» الذي اخترعه «آيدا إن ميلر» في أكسفورد، وسط إنكلترا.

 

«آيدا» هي أول فنانة روبوت في العالم قدّمت أداءً شعرياً كتبته باستخدام الخوارزميات الخاصة بها، احتفالاً بالشاعر الإيطالي العظيم دانتي صاحب «الكوميديا الإلهية». وأوضح ميلر أنّ قدرة «آيدا» على تقليد الكتابة البشرية «عظيمة جداً، إذا قرأت كتاباتها فلن تشكّ للحظة أنّها لإنسان. طُوِّر مشروع Ai-Da لمعالجة الجدل حَول أخلاقيات تطوير الذكاء الاصطناعي. اتضح لنا أخيراً أنّ التكنولوجيا لها تأثير كبير على جميع جوانب الحياة، ونسعى إلى فهم مدى ما يمكن أن تفعله هذه التكنولوجيا، وما يمكن أن تُعلِّمنا إياه عن أنفسنا».

 

ونظراً لأنّ Ai-Da تعلّمت كيفية تقليد البشر بناءً على سلوكنا، يؤكّد ميلر أنّ المشروع أظهر مدى اعتياد البشر على الحياة وكيف نميل إلى تكرار الأفعال والكلمات وأنماط السلوك، ممّا يشير إلى أنّنا في الحقيقة نحن الروبوتات.

 

ويدرك ميلر المخاوف بشأن التطوّر المتزايد للذكاء الاصطناعي وإمكانية استخدام الخوارزميات للتلاعب بالبشر، لكنّه يعتقد أنّ «التكنولوجيا في حدّ ذاتها «حميدة»، أولئك الذين يتحكّمون بها هُم الذين يمكن أن تكون نواياهم خبيثة ومشكوك فيهم أخلاقياً».

 

صحيحٌ، الابتكار أساس التطوّر والاستمرار، بشرط أن يكون الأنسان أمام مصيره وليس خلفه، أو سيقوم إنسان آلي أو روبوت بذلك. عندما تكون تحت ضغط، يجب الدفاع عن الأمور المهمّة والمهمة فقط وقبل أي شيء. في حين، يجب معرفتها وتعريفها، إذ يكمن السرّ في ترتيب الأولويات بشكل منهجي وابتكاري قابل للحياة.

 

كما أنّه عند ترتيب الأولويات، لا يتعلّق الأمر أو الفعل بما تَضمّه أو تُضمِّنه لها، بل بما يستوجب استبعاده منها... لأنّ الطريقة الوحيدة للتنبّؤ أو التخطيط بمعنى أصح للمستقبل، بحسب إريك هوفر، هي إمتلاك القوة لصنعه، وامتلاك الحجة والحاجة لصنعه وقبل كل شيء الحكمة أيضاً.

 

هذا العالم الإفتراضي، بكل تجريد وواقعية، أصبح حقيقة قائمة في متناول الجميع، إنّها تكنولوجيا الإنسان وأيديولوجيّته الإفتراضية الجديدة التي لم تعُد افتراضية من جهة، في تطوّر خارق للآلة، التي بدأت من دون أدنى شك تحفر قبورهم بسرعة تطوّرها في الجهة الأخرى. الجهة الأسرع بكثير من حاجاتنا لها في تراكمها الكمي، والحقيقة المرعبة في تحوّلاتها النوعية، ونوعية تراكمها في سلبية مفرطة للإحتمالات المفتوحة على كل الإحتمالات.

 

إنّها السلاح الجديد في إنتاج المكر والجشع والتغوّل الرأسمالي، في أقصى سرعته التي أصبحت محمولة في جيوب الجميع وفي متناول أيدي أطفال الزمن الإفتراضي - أطفالنا، بمقاييس جد تقنية وحدود مطلقة في نسبيّتها.

 

تابعَ سيغموند فرويد في كتابه قلق أو «توعّك الحضارة» قبل أكثر من 80 سنة، تأمّلاته، حول ما كان يُسمِّيه «مصير الحضارة»، رسم فيها صورة للتوازن الشديد الهشاشة التي بات الكائن الإنساني يجد نفسه فيها في تلك المرحلة التاريخية والمراحل المتعاقبة. أصبح هذا الفرد الكائن الحَي في مواجهة حضارة تدفعه إلى موته بدلاً من أن تدفعه إلى الحياة! يقدّم كتاب «اختفاء الذات عن نفسها» لدافيد لوبروتون مقاربة أنثروبولوجية - فلسفية للذات المعاصرة باعتبارها كياناً هشاً، مهدّداً بالغياب أو التلاشي في سياق عالم حديث يطبعه التسارع، الفردانية، التشييء، والتقنيات الرقمية.

 

هنا لا تختفي الذات بمعنى موتها البيولوجي، وإنما عبر فقدان المعنى، تراجع الانخراط الجسدي والرمزي، وانفصام العلاقة مع العالم والآخرين. ومن ثَمَّ يشكّل العمل نقداً حاداً للحياة المعاصرة التي تُحوّل الأفراد إلى ذوات متقطعة ومنفصلة عن خبرتها الإنسانية الأصيلة.

 

يرى لوبروتون، أنّ الذات لم تعُد تتمتع بتماسكها التقليدي، بل أضحت مهدّدة بالتفكك، العولمة الرقمية، الفردانية المتطرّفة، وضغط الاستهلاك، كلها عوامل تُنتج فراغاً داخلياً يُفضي إلى فقدان الإحساس بالذات. هذا الوضع لا يعني الانمحاء الكلي، وإنما انكسار الأفق الرمزي الذي يمنح الحياة معناها.

 

الصمت والانسحاب الاجتماعي: محاولة لحماية الذات من الضجيج الخارجي، لكنّها تنتهي بتآكل الروابط، الانغماس في الوسائط والتقنيات، استعمال مرضي يؤدّي إلى تلاشي الجسد كوسيط مباشر للوجود في العالم، واللامبالاة والفراغ العاطفي عندما يتوقف الفرد عن الإحساس بجدوى المشاركة في الحياة.

 

يؤكّد لوبروتون، أنّ اختفاء الذات يرتبط بالأساس بفقدان الصلة الجسدية بالعالم. الجسد ليس مجرّد أداة بيولوجية، بل وسيط للمعنى والتجربة. فحين يتحوّل إلى شيء خارجي (كما في الإفراط التكنولوجي أو الاستهلاك)، يختفي الشعور بالانغراس الوجودي.

 

على رغم من التشخيص المأساوي، يقترح لوبروتون إمكانية استعادة الذات عبر: إعادة بناء علاقات حميمية مع الآخر، استعادة الحوار والإنصات كوسائل لإحياء التجربة، إعادة وصل الذات بالجسد والزمن والذاكرة المشتركة. هذه العودة ليست حنيناً للماضي، بل تأسيساً جديداً للمعنى في زمن الاغتراب. إذا كنّا نعتقد أنّ حياتنا اليومية مجرّد محاكاة أُنشأت بواسطة جهاز كمبيوتر قوي، مثلما في فيلم «ماتريكس» الشهير، فإنّ هذه الفكرة قد لا تكون ببساطة خيالاً علمياً، و«الأشعة الكونية» يمكن أن تكشف عن ذلك كما السياسات الإمبريالية. نحن نعيش مرحلة صراع الإمبرياليات الكبرى في «ماتريكس» (سوسيو/وجودي) تقوده مصالح الرأسماليات التي أصبح الصراع بينهما ليس مجرّد حصة من هنا أو حصة إضافية من هناك، بل صراع داخل «ماتريكس» (تكنولوجيا «الغباء» الاصطناعي) واحد وضع كيمياء وفيزياء الإنسان في المرتبة الثانية، الثالثة، أو العاشرة.

 

وأصبح معها الصراع الوجودي بين «سام الأميركي» و«التنّين الصيني» في الـ«ماتريكس» السياسي المعاصر مجرّد صراع على ما تبقّى من هذا الكوكب البنفسجي الباهت، مجرّد صراع بين جسدَين لا يُتقن الواحد منهما لغة الآخر من دون تدخّل البرامج الآلية «الذكية» أو الغبية التي تفتقد إلى العنصر الأهم وجودياً: عنصر الإنسان وجودياً ومصالحه الوجودية. لا أرض لجسدَين في جسد، ولا منفى لمنفى في هذه الغرف الصغيرة، والخروج هو الدخول!

theme::common.loader_icon