الحية النحاسية يوحنا 3: 13-18
الحية النحاسية يوحنا 3: 13-18
أنطوان نصر
Monday, 08-Sep-2025 07:16

كان الموت يُلحق الدمار، في قلب الصحراء، في معسكر إسرائيل الهارب من مصر، بواسطة الحيات «بلدغات حارقة». لم يكن مَوتاً عادياً، بل موتاً يُعتبر كعقاب على توبيخ الشعب على خطيئته. فجاء بنو إسرائيل إلى موسى للإعتراف والتوبة: «لقد أخطأنا... إشفع لنا!».

وأظهر الله لشعبه الوسيلة التي منحهم إياها للانتصار على الموت، وسيلة غريبة، متناقضة تماماً كمغفرة الله: فبما أنّ الحيات هي التي تُسبِّب الموت، فإنّ الحية هي التي ستجلب الحياة، والأهم من ذلك، حية ميّتة، مصبوبة من البرونز، مُجمّدة إلى الأبد، رمزاً لانتصار الله الحاسم.

 

إنّها عناية الله الأبوية، الذي يُحيي حيث كان الموت موجوداً، والذي يدعو شعبه للتحديق باهتمام نحو علامة، حية تافهة مُسبوكة في معدن الأصنام القديمة، حتى يتضح من الآن فصاعداً أنّ الخلاص يأتي منه وحده. بهذا المعنى، فسّر سفر الحكمة، قبل بضعة عقود من عصرنا، قصة الحية النحاسية: «فمَن التفت إلى الحية لم يخلص بالشيء الذي نظر إليه، بل بك أيّها المخلّص الإلهي. فبه برهنت أنك أنت المنقذ من كل شر» (حك 16: 7-8).

 

وحتى اليوم، تتحقق آية الحية النحاسية للكنيسة، التي تحتفل يومياً بانتصار يسوع على الصليب ومن خلاله. فجماعة يسوع لا تكف عن عبور الصحراء، ولا تُقدّر دائماً قيمة خروجها ونفيها. وإذ ترى الكنيسة طريقها مليئاً بالانشقاقات والسقطات، وقد أضعفتها لدغات الكفر والسخرية والانقسام، فقدت الثقة، وبدأت تنظر بحنين إلى «مصر» الرخاء والتنازل. أجاب الله موسى في البرية: «اصنع لنفسك ناراً واجعلها على راية. من ينظر إليها يحيا» (عدد 20: 8). واليوم، يجيب الكنيسة: «لقد وضعت لكم علامة خلاص: هذا هو ابني، على راية الصليب، انظروا إليه!».

 

إذاً، يبدأ الخلاص بنظرة، نظرة نحو من طعنه البشر (يوحنا 19: 37)، نظرة إيمان نحو الوسيلة المتناقضة التي اختارها الله، نظرة رجاء موجّهة نحو صليب الرب ومُحافظ عليها. فعلى الصليب، تُغيّر المعاناة والموت علاماتهما. شاء الله أن تتدفّق الحياة إلى العالم من خلال صليب يسوع.

 

في الواقع، أحبّ الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد. رفع الله ابن الإنسان، ثم رفعه، لينال به كل مَن يؤمن الحياة الأبدية. والآن، تسخر الكنيسة، على غرار القديس بولس، من قوى الموت الروحي: أين نصرتك؟ أيّها الموت، أين شَوكتك؟ أردتَ أن تلدغ البشرية، وأنتَ تهلك!» (راجع 1 كورنثوس 15: 55).

 

هذه الرؤى العظيمة، وهي رؤى سرّ فصح يسوع والكنيسة، تُساعدنا على أن نُدرك، في حياتنا الشخصية، المعاناة، والمرض، والفشل، والشيخوخة، أو الخدمة التي تُصلب الشباب، وآلام الحياة الأخوية، وآلام العاطفة.

 

كل هذا، في بوتقة القيامة، هو سرّ صليبنا. إنّه «سرّ»، إذًا، بالمعنى البولسي، خطة الله، تصميم خلاصٍ خفيّ منذ زمن طويل، ينكشف تدريجاً. كل هذا هو صليبنا، الصليب الملموس والشخصي، غير المتوقع والغريب دائماً، والذي يجب أن نتمسك به لنتبع يسوع. وهذا السرّ الذي يُجسّده الصليب لا يُختبر أساساً على المستوى العاطفي، بل على مستوى الواقعية المسيحية.

 

في الماضي، كان هناك الكثير من البكاء أمام صليب يسوع، وكنّا أحياناً نُشبّه دخولنا في الآلام بلحظات ضعف عاطفي. لكنّ الصليب بالنسبة إلينا، ذاك الذي يُشبه صليب يسوع إلى حدّ كبير، هو الصليب الذي يُساعدنا الله على إدراكه، مغروساً هناك في حياتنا في مكان لا يعرفه إلّا هو. الصليب الحقيقي بالنسبة إلينا هو ذاك الذي تُصبح فيه صراعات العالم «حرقة» خفية في القلب، كحرقة عمواس ونحن نستمع إلى القائم من بين الأموات. الصليب الحقيقي هو حقيقة وجودنا، التي نخوضها بشجاعة كدعوة إلى نصر يسوع.

 

الصليب المقدّس هو موضع الخدمة الذي نتطلع منه إلى المسيح الخادم، وإلى الله أبينا، الذي وحده قادر على أن يُحيي من كل موتنا.

 

الله يُحيي حيث كان الموت موجوداً، ويُقدّم لشعبه فرصة للخلاص والغفران. إنّها رسالة إيمان ورجاء، تدعو الإنسان إلى التوجّه نحو الله والاعتماد على نعمته. في ضوء ذلك، يمكننا أن نفهم أنّ الخلاص لا يأتي من خلال الأعمال أو الجهود البشرية، بل من خلال النظر إلى الله والثقة في خلاصه.

 

إنّ سرّ الصليب هو سرّ الخلاص، حيث يُغيّر الله علامات المعاناة والموت، ويُقدّم لشعبه فرصة للحياة الأبدية. إنّها دعوة للنظر إلى الله بعيون الإيمان، والثقة في خلاصه، والاعتماد على نعمته».

theme::common.loader_icon