«لبنان»... أثر الفراشة لا يزول!؟
«لبنان»... أثر الفراشة لا يزول!؟
محمود القيسي
Saturday, 30-Aug-2025 07:22

«أثر الفراشة لا يُرَى... أَثر الفراشة لا يزول... هو جاذبية غامضٍ يَستدرِج المعنى... هو مثل أغنية تحاول أن تقول، وتكتفي بالاقتباس من الظلالِ ولا تقول... أثرُ الفراشة لا يُرَى... أثر الفراشة لا يزول!». (محمود درويش)

عندما تزدحم وتتزاحم وتتراكم الأسئلة الوجودية في لبنان هذه الأيام الوجودية والمراحل الوجودية بامتياز الرعب الوجودي في لبنان الوطن والمواطن والمواطنية. الوطن الذي يتحلّل منهجياً ويذوب وجودياً ومنهجياً. عندما تتزاحم وتتراكم الأسئلة الوجودية في أشكالها الوجودية الهزلية وتحوّلاتها الوجودية المأساوية...

 

حينئذٍ، نتحوّل معها إلى مجرّد كائنات لا ترى غير ما يكشف عنه الضوء كما يقول جبران «النبي»، ولا تسمع غير ما يُعلنُ عنه الصوت، فأنتم في الحق لا تُبصِرون ولا تَسمعون. وكلّما ازداد العقل علماً - بحسب إسبينوزا في رسالة في إصلاح العقل - ازداد فهماً لقواه ولنظام الطبيعة... وكلّما ازداد فهماً لنظام الطبيعة ازداد مَقدِرةً وسهولة على تحرير نفسه من الأشياء التي لا فائدة منها.

 

في حين، نحن في لبنان نزدحم ونتزاحم أمام معضلة سحب أو حصر السلاح غير الشرعي بالسؤال الهزلي الوحيد والأوحد. بالسؤال المأساوي الوحيد والأوحد في حقيقة مأساة الوطن والمواطن: «متى ننتهي من مأساة ومهزلة السلاح غير الشرعي!؟». والقلق الظاهر على وجه المواطن والوطن المهشم الهش من دون أن يدري أنّه يتحلّل هو والوطن تدريجاً. ويتحوّل إلى أشياء أو أشلاء. مجرد أشياء لا تألفها الفراشة. فلسفة الفراشة أو فلسفة الفوضى!؟

 

مصطلح تأثير «الفراشة» هو استعارة لفظية تُستخدم للتعبير عن نظرية «الفوضى»، وهي نظرية فلسفية فيزيائية تعتقد بأنّ الأسباب الصغيرة، لها تأثير واضح على النتائج (المسلكية والسلوكية) على المدى القريب والمتوسط والبعيد. وتعتمد هذه النظرية على ما يُسمّى بـ«حساسية الظروف الأولية»، أي أنّ «النظام» يكون حسّاساً تجاه المتغيّرات «البسيطة» التي تحدث منذ «البداية».

 

جملةٌ واحدة صغيرة من الترهيب والتخويف، يقولها أب لطفله ليمنعه من ارتكاب خطأ، يُمكن أن تُنتِج في المستقبل إنساناً غير مُكترِث بالقانون، وعبداً لأي شخص صاحب قوّة أو تابعاً لأي سلطة قمعية. فكيف يكون ذلك؟

 

بحسب نظرية «تأثير الفراشة»، فإنّ الأحداث متناهية الصِغَر، قد تُشكّل نتائج هائلة الاتساع. وإن تتبّعنا طريق هذه الجملة في حياة هذا الطفل فسنجد أنّها بَنَتْ جداراً من الخَوف في شخصيّته، فتُصبح تصرّفاته مبنية على أساس الخوف لا القناعة، بمعنى أنّه قد يتصرّف بسلوك جيد، ليس قناعة منه بحسن السلوك، بل لأنّه خائف من العقاب، حتى لو كان ذلك العقاب وهمياً. وفي حياته العملية، سيخضع هذا الشاب إلى أجندات خارجية وهويات مزوّرة قاتلة، إذ تعلّم منذ الصِغَر أنّ عليه طاعة صاحب الأمر والولاية!

 

هي نظرية أطلِقت لأول مرّة عام 1963 على يَد عالم الرياضيات والأرصاد إدوارد لورينتز، الذي حاول جمع المعادلات الرياضية للتنبّؤ بالأحوال الجوية لفترة معيّنة، وأدخل البيانات إلى أجهزة خاصة طوّرها بنفسه، فوجد تفاوتاً في النتائج عند تكرار التجربة بسبب إهماله لبعض المنازل العشرية البسيطة التي لا تُحتسب عادةً، مستنتجاً أنّها تُحدِث فرقاً عند التكرار ولمدة طويلة، وذلك من خلال دحرجة كرة على سبيل التجريب من أعلى الجبل لحساب سرعتها، إلّا أنّ أسباباً صغيرة قد تؤثر على سرعتها وتُغيِّر اتجاهها مثل نسمة الهواء البسيطة، أو وجود حصوَة صغيرة أثناء الدحرجة.

 

وهكذا تتأثر النتائج بأبسط الأمور، ممّا جعله يُطلق نظرية «تأثير الفراشة». نحن من البلاد التي أهملت في مجتمعاتها الكثير من المنازل العشرية «البسيطة»؛ فوجدنا متأخّرين للأسف أنّها تُحدِث فرقاً عند التكرار، وتزداد سرعة تدحرج «الكرة»، إلّا أنّ أسباباً، بحسب صاحب نظرية الفوضى، قد تؤثر على سيرها وتُغيِّر اتجاهاتها!

 

يعتقد نعوم تشومسكي، أنّ العنصر الأساسي للرقابة الاجتماعية هو استراتيجية الإلهاء التي تعني تحويل انتباه الجمهور عن القضايا والتغييرات المهّمة التي تُحدِّدها النُخَب السياسية والإقتصادية والطبقات الحاكمة، عن طريق تقنية الإغراق بالمُشتِّتات المستمرّة والمعلومات التافهة. وتجريد الجمهور من كل شيء وأي شيء، حتى السؤال عن أدنى حقوقها المعيشية، من قطرة الماء إلى ساعة كهرباء فحبة القمح وحبة الدواء.

 

ربما تُلخِّص هذه الأفكار مضمون السياسات المعتمدة تجاه «مختبرات» العالم الثالث والدول النامية، التي أُغرِقت منذ سنوات بأزمات وحروب ومخططات وأجندات غادرة مختلفة في الظاهر ومتفقة في الباطن. وحروب وتجويع وحصار لإطاحة كلّ الأفكار والجهود الساعية إلى التحرّر والاستقلال والتنمية.

 

كما عملت دوائر المخابرات ووسائل الإعلام ومنظمات في المجتمع المدني بكلّ طاقتها، لتزوير الواقع وإيهام الرأي العام بأنّ مشكلتها الحقيقية تكمن في عُقم السياسات المتّبعة داخل الدول وليس من خارجها. ولأنّ الفساد والهدر والمنفعة الخاصة والتهميش والبيروقراطية تُسَيطر في العديد من الدول، قُدّر للخارج توجيهنا نحو ما يُسمّى بـ»الثورات البرتقالية» و»الربيع» و «الحراك» وما شاكل من عناوين حرّفت طبيعة الصراع وتحكّمت فيه، مغيّبةً دور الأجهزة الخارجية وملحقاتها عن اهتمام الكتلة الشعبية الغارقة تحت أثقال الهموم اليومية.

 

النموذج اللبناني خير تعبير عن «استراتيجية الإلهاء». منذ الاغتيال «المشبوه» لرئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري وما تلاه من اغتيالات، وصولاً إلى الكارثة الإقتصادية والمالية والإجتماعية... وصولاً إلى السلاح غير الشرعي الذي أخذنا إلى حرب إسناد عنوانها المصالح الغادرة بين إيران وإسرائيل على أرضنا.

 

نحن وللأسف من الشعوب التي لم تستَوعب حتى اليوم أسباب مأساتها وانحطاطها الأولية. وتلك هي إحدى أهم وأخطر المفارقات التي ابتُليَ بها اللبناني وبعض الدول العربية المخطوفة... نحن في لبنان لسنا أكثر من مختبر سياسي واقتصادي ومالي وديني في مناطق النزاع والإستبداد وجغرافيا الزلازل التي تُعيد إلى الأذهان قولاً مأثوراً للفيلسوف للألماني، كارل ماركس «التاريخ يُعيد نفسه، أولاً كمأساة، ثم كمهزلة». في حين، نعيش في لبنان المأساة والمهزلة معاً، والسؤال والجواب معاً، السؤال عن حقيقة المأساة وحقيقة الجواب المهزلة والهزل السياسي في السؤال والجواب...

 

السؤال المأساوي يومياً عن سعر الدولار. وأسعار كيلوواط الكهرباء المقطوعة، وأحوال السيادة الوطنية المُعطّلة وأخواتها وشركائها!؟

 

هناك عبارة شهيرة لماركس: «إنّ البشرية لا تضع نُصبَ أعيُنها إلّا ما تستطيع تحقيقه، وهذا صحيح فقط بمعنى ما؛ فإنّ الطريقة الوحيدة إلى رفع سقف الممكن هو تحدّي المستحيل، فهذا وحده هو الملهم للشعوب»... إنّه الملهم لشعوب تعزف سيمفونية الممكن لتحقيق المستحيل، وليس لجعلنا أجندات ومتاريس في حروب الآخرين.

theme::common.loader_icon