اختلفت طرائق المواجهة للحكومات وقراراتها. فبَين تجارب استطاعت اجتراح وسائل سياسية أو وسائل قضائية للمحاسبة، وبَين مَن اعتمد صيغاً ثورية وبين من اعتمد الإستفتاء وسيلة، وبين مَن وفّر إمكانية للشعب لمقاضاة حكومته على إهمالها أو تقصيرها أو تخلّيها عن سيادتها، وغيرهم ممّن افترض أنّ نظرية فصل السلطات قادرة على معالجة هذه المشكلة.
لكن بالمراجعة، بقِيَت هذه الإجراءات قاصرة عن ثَني خروج الحكومات عن حدودها أو اعتبارها متجاوزة لحدود سلطتها، وما زال أهل الفقاهة يجتهدون لملء هذا الفراغ في فاعلية النظام السياسي والتزامه معاني الحقوق الأولى للإرادة العامة، فكيف الحال في بلد كلبنان صيغت بنية النظام السياسي فيه بطريقة تحول دون محاسبة سلطة لأخرى (شروط تكاد تكون مستحيلة)، فضلاً عن طبيعة النظام الطائفي والسلطة السياسية التي كثيراً ما تكون ممثلة أمينة للخارج.
إنّ لبنان يعاني أكثر من غيره توترات وتهافتات في كل مفاهيم ومفردات منتظمه السياسي، فهو يعاني من ذاك التوتر الحاد بين الديمقراطية كحكم الأكثرية والديمقراطية التوافقية، وبين المشروعية والقانونية وبين الطوائفية والدولاتية وبين الدولة والرسالة، وليس آخراً أنّ بنية نظام الطائف لم تُحدّد مضمون هوية لبنان، فاعتبرته عربياً من دون تحديد معنى العروبة ومضمونها، إن كان انتماءً حراً أو قهرياً وعصبياً أم حضارياً، كما أنّ دستور الطائف ربط مختلف السلطات ربطاً محكماً بموازن من الخارج أو مدير (سوريا حينها أو السعودية أو فرنسا من قبل).
وجاء الإعلان الحكومي الأخير ليزيد المعضلة إعضالاً. فتساءل أهل الرأي عن طبيعة هذا الإعلان أو القرار، وإذا ما كان إدارياً أو سياسياً، وأي قوّة قانونية له ومَن هي الجهة المولجة بتقييم مشروعية هذا الإعلان لإعادة النظر به أو إلغائه أو بنقضه أو إيقاف العمل به أو المضي به.
عندما نكون أمام قرار إداري يكون مرجعنا مجلس شورى الدولة، وإذا كنّا أمام قرار سياسي، فيُفترض إن يكون البرلمان هو الجهة المولجة، فيُسائل ويُحاسب وقد يسحب الثقة. لكن ماذا لو كانت تحظى الحكومة بأكثرية برلمانية، فهل تصير الأكثرية هي مصدر شرعية القرار، أم الدستور، أم القواعد القانونية والحقوق الطبيعية والمدنية؟
وعليه، هل نحتاج لسلطة قضائية عليا تُعنى بذلك، كأن يُطوّر عمل المجلس الدستوري، أم يجب اجتراح مؤسسة سيادية جديدة من قبيل مجالس الأمن القومي في الدول، أو يُطوَّر دور البرلمان وآلياته لتأكيد دستورية القرار من عدمها، أم تذهب بنا الحاجة إلى مجلس يَبتّ في ملاءمة القوانين للدستور والقواعد الحقوقية والطبيعية والسيادية الأولى؟
نعم، لبنان في أزمة دستورية فعلية بل في لحظة خطيرة من تفجّر تناقضات نظامه السياسي، فالحكومة تتجاوز صلاحيّتها عندما تعتدي على حق شعب محتلة أرضه ومستباحة سيادته ومهدّدة هويّته ومكوّناته، وبدل أن تتقدّم هي لتحقيق درجة سيادته وتضطلع بحمايته، تذهب لانتزاع أحد مصادر طمأنينة شريحة واسعة من شعبه، إلتزاماً بقرارات الخارج وبخدمة أهدافه. فهل للحكومة صلاحية أن تأخذ هكذا قرار في مسألة سيادية، بل إنشائية كـ"المقاومة"، أم أنّ إعلانها هذا هو خارج نطاق صلاحياتها، باعتبار أنّ الأمر سيادي ودستوري وأخلاقي وحقوقي بل وإنشائي كما ذكرنا.
هل الإعلان الحكومي يمكنه إعادة إنتاج تفسير خاص للسيادة (غبّ الطلب)، أم أنّ السيادة مسألة من تماهيات الدولة لا الحكومة، وفيها ثبات شبه مطلق، فلا يمكن أن تبتّ بها حكومة بعَينها في ظروف خاصة أو موازين ظرفية معيّنة وإخضاعها للاستنساب والأهواء وتبدّلات السلطة؟
نحن أمام معضلة دستورية وسياسية وقانونية وأخلاقية لا تجد حلّاً حتى اللحظة، ولن تجد إلّا بالحوار أو الشارع في نهاية المطاف، وما يحتمله ذلك من سقوط الهيكل في غياب مؤسسة تضع تصوّراً وإطاراً لمعالجة هكذا معضلة!
فمسألة سلاح "المقاومة" قضية سيادية وكيانية وإنشائية للبنان، وليست من نسخية الميليشيات التي تقتات على الحروب الداخلية وتقاسم النفوذ الجغرافي والاقتصادي وإضعاف الدولة وكيانها كما حصل إبان الحرب.
"المقاومة" في لبنان أساسها حقوقي ودستوري وقانوني وسياسي ومصلحي بل تكويني للبنان.
ففكرة "المقاومة" وسرديّتها وذاكرتها في جغرافية لبنان لنَيل التحرّر والحرّية هي سابقة للبنان الدولة. المقاومة كانت قضية المكوّنات والأفراد التي حفظت وجودهم وهويّتهم، ولولاها لما بقي التنوّع ولما انوَجد لبنان كقضية قبل أن ينوجد ككيان. "المقاومة" هي الفكرة الأولى التي أنشأت لبنان ومنعت تذويبه أو تغريبه أو أسرلته وحفظت تنوّعه. "المقاومة" لم تكن ترفاً فكرياً ولا نزوة إنّما استجابة واقعية لحاجات وتهديدات فرضتها الوقائع والتحدّيات المصيرية المتتالية.
"المقاومة" هي فكرة استقرّت في نفوس أهلها باعتبارها نداءً طبيعياً وأخلاقياً وثقافياً له علاقة بالنظرة للذات والمسؤولية والظلم، وباعتبارها أرقى السبل وأكثرها تحضّراً وواقعية لنَيل الكرامة وحفظ الذات والهوية والمصالح.
إنّها نداء المسؤولية لإحقاق الحق وإبطال الباطل. هي ليست نزوة إنّما نزعة، وليست سكرة إنّما فكرة عميقة وإرث بقية الصلحاء، وليست عرضاً إنّما جوهراً يحوي منهجاً معرفياً متكاملاً يُحدِّد السلوك وينهض بالأفضل لا الأنسب فحسب، وهي الفضيلة بالنسبة لشرائح لم تتعدّل أو تتغيّر طبيعتها الأولى، بعدما اندمجت بالمدنية أو ما نصطلح عليه الدولة (البعض عندما يندمج بالمدنية يعيش مفارقة عن الطبيعة الأولى، فيتخلّى عن الفضائل على حدّ قول روسو).
"المقاومة" ومَن يتبنّاها هم من يُسائلون وليسوا يُسألون، هم مَن يُطالب بدولة سيّدة وبمدة زمنية من الدولة لاستعادة سيادتها واستقلالها. الشعب هو صاحب السيادة وهي ممثلة لها، ولما كان العقد لا يتمّ إلّا بين أحرار، فإذا لم تكن هي حرّة فهي التي تهدّد العقد.
و"المقاومة" في الدستور اللبناني لا تحتاج لاستدلال، وأيضاً في التشريعات الدولية والقانون العام، فهي حق وعدم القيام بها هو تخلٍّ ونقص. فكيف إذا كنا نتحدّث في مقام "الدولة" التي لا وجود واقياً لها قبل تحقق منزلة "السيادة"!
ختاماً، هل يكمُن الحل بمراجعة النظام السياسي أم بتطويره وإيجاد صيغة للتثبّت من دستورية وسيادية القرارات الحكومية وإعلاناتها وفحص مشروعيّتها. إذ يمكن أن يضطلع بذلك مجلس النواب أو مؤسسة قضائية أو مجلس يُستحدث؟
إنّ الحوار هو الطريق الوحيد الذي يمكن أن يساعد في تخليق معنى لعقد توافقي ولو بحدود حماية الإستقرار ووضع مسار حوار علمي رصين، وإلّا سنكون حتماً أمام اتجاه سيترك تداعياته الكبرى على الأمن والإستقرار العام، وقد يؤدّي إلى انهيار الدولة بكلّها، فنخسر الدولة بدل أن نقوّم سياساتها وقرارات الحكومة وإعلانها.