التشكيك الفلسفي في الأدب والفن بين الرفض والمجاراة
التشكيك الفلسفي في الأدب والفن بين الرفض والمجاراة
نسرين بلوط
Wednesday, 20-Aug-2025 07:14

لطالما صوّر أفلاطون بأنّ الأدبَ هو صورةٌ معاكسة للفلسفة، تحتكمُ للأحاسيس وتأتمرُ بالانفعالات الذاتيّة النابعة من انعكاس الردّات الفجائيّة التي تتقرّرُ وفق الحدث الآني، وأنَّ الغائيّة له تكمنُ في معاول التنبيش عن الحقيقة الميتافيزيقيّة في مهد الخيال والفنّ السائح بين الذاكرة والطبيعة، وإعلان شعائر الاحتفاء بالقريحة التلقائيّة، حيث لا تتعدّى حدودَ الذات ونزواتها. أما الفلسفة فهي العقلُ الذي يُقرّرُ ويحلّلُ ويعطي الحقائقَ المدهشة التي لا تقومُ على التصوّراتِ أو التهيّؤات، بل التسلسل المنطقي والتوثيق الذهني العميق.

ولكنّ الحداثة لا تستثني أيّ منعطفٍ انساني، فقد بدأ الفلاسفةُ يتّجهون للأدب من خلال اقتباس رواياتهم من شظف الواقع وملاحمه المستقاة من الصيرورة الإنسانيّة، فكانوا مثل صيّادي اللؤلؤ الذين يحكمهم الفضول وحبّ التنقيب والاستكشاف، حيث صوّرَ دوستويفسكي ملحمةَ الصراع النفسي المترديّة عن الفقر نحو مستنقع الجريمة في روايته الخالدة «الجريمة والعقاب»، وتنزّه في محاور الدلالات الوجوديّة على طريق جلاء التضاد بين الجموح الغرائزي والسطوح الناتئة بالعقد النفسيّة داخل الأرواح الضالّة، والتي كانت ضحيّة مجتمعها ولم تأتِ نتيجة «سببيّة بلا سبب»، بل كخلاصةٍ للتراكماتِ الاجتماعيّة المُذلّة والخادشة للنفس، وإلى شحوبِ المواد التي صنعتها، كالفاقة والحاجة والنقمة الطبقيّة.

 

وكذلك مزج غوته بين الطبيعة والفلسفة والعشق من خلال روايته «آلام فرتر»، فصوّر حريّة الانسان في الحياة والموت على أنّها حقٌّ مقدّس، يسنحُ له بأن ينهي آلامه ساعة يشاء، وقد اتّخذ الجانبَ السيريالي درعاً له في تحليلِ الانثروبولوجيا الموضوعيّة المتعلّقة بتفسير الحياة وتجزيئها إلى مواقفَ متناقضة ومتلاحمة في الوقت نفسه.

 

أمّا الرسّام فان غوغ، فقد انتقى الاتّجاه الدموي في التعبير عن رفضه لفلسفة القمع، ويُقالُ إنّه أقدمَ على هذا إثر شجارٍ تقاطعيّ عنيف بينه وبين أحد الأشخاص، ولكنّ الحقيقة الثابتة هي مرورُه برحلةٍ من الاكتئابِ لم يفلح بأن يتصدّى لها، وكان هذا واضحاً من خلال مراسلاته لشقيقه ثيو، وقد اختصرَ ما يعتنقه من نواة الفلسفة في لوحته «ليلة النجوم»، التي جعل فيها منزلةً للاوجود، متمثّلاً شبح الاضطراب وسط بهاء النجوم البارقة في سماءٍ ليليَّةٍ ملوّنة، تشبهُ مزاجيّة الحياة التي تصفو وتتعكّر وفقاً لأهوائها، وقد بلغ درجةَ التجريد في اختيار الألوانِ الفلسفيّةِ القادرة على تشكيلِ منطقه الخاص من خلالِ الرسم، وتجاوزَ التعبيرَ الفطري ليهندسَ ما يمليه عليه المنطق. وفي هذا قال: «نركب الموت لنصل إلى النجوم. الشيء الوحيد الصحيح بما لا يدع مجالًا للشك هو طالما نحن أحياء، فلن نستطيع أن نصل للنجوم مثلما لا نستطيع أن نركب القطار إذا كنا أمواتاً».

 

أمّا الروائي الفرنسي ألفونس دوديه، فقد صرّحَ بفلسفته الساخرة التي تنتمي إلى مذهب المحقّقين من خلال قصصه المتهكّمة على الظلم الاجتماعي المقيت القائم في الكون بلا مبرّر، فأضاءَ على خفّة المراوغة وقمّة التنكيل النفسي بين الظالم والمظلوم، وتحرّي الحقيقةَ من خلال التبلور المنطقي للتداعيات البيئيّة والنفسيّة فيما حوله، والارتكاز على قاعدة المراقبة من وراء الستار في الظلّ المتواري للشمس، حتّى يرصد الآتون الجهنميّ الذي يحرقُ الأحياء في منازعاتهم اليوميّة.

 

وقد صنّف الباحث السيكولوجي روبرت جانييه علم التعلّم كتنسيقٍ آيلٍ للتغيير يقوم على ثلاثة مبادئ وهي الانتباه، والتوجيه، والتكرار. هذه الفلسفة المتآخية مع فلسفة هيراقليطس الذي يقول: «كل شيء قابل للتغيير، ولا شيء يبقى على حاله إلى الأبد»، لا تستثني الجانبَ الحيويَّ للأدب، إذ تشحذُ قواها من الاكتسابِ والتقييمِ والتحفي، وهي صفاتٌ أدبيّةٌ يمكنُ أن تُصنّفَ ضمن الموادِ الأوليّةِ المكوّنة لنواةِ الأدب والفنون المتشقّة عنه.

 

وقد تجنّب الباحثُ الاجتماعيُّ روجيه كايوا الخوضَ في سيمائيّة المقدّس رغم إلحاحه في إعادته إلى هيكليّة المجتمع بشكلٍ فعّال ولكن مع تفسيرٍ علميّ صحيح، وهنا قد تنازعته رغبتان، الأولى الجماليّة الدينيّة الكامنة في سطوع الخيال، والذي أشاد به الشعراءُ الصوفيّون، والثانية هي السعي لإثباته على أنّه حقيقة راسخة كما ناشد معظمُ الفلاسفة المتشكّكين، ودحض ما يزعمون من أساليب النفي والتبرير.

 

وقد سعى الكاتب الالماني آرثر شنتسلر إلى تقديم الفلسفة التأثيريّة مع الأدب، فانتقد المجتمع البرجوازي ومحافله المتخمة بالجنس والترف واللاوعي، وقد أرسل إليه فرويد رسالةً أثنى على المناشدة الوعظيّة في أدبه وردّ فيها : «انشغالك بحقائق الوعى الباطن ودوافع المرء الغريزية، تشريحك للأعراف الثقافية لمجتمعنا، استقرار أفكارك على قطبي الحب والموت، كل هذا يثير لديّ شعورًا مدهشًا بالألفة».

 

إنّ الأمرَ يشبهُ تقاطع الطريق الملتوي والمتعرّج، والذي يقودُ إلى نفس المصبّ الانسانيّ والطبيعيّ المتدفق بالتفكير البشري برمّته وبالمشاعر التي يخلقها الشعورُ الباطنُ والانفعالُ الآني وردّات الأفعال المتباينة.

 

بين تشكيك الكثير من الفلاسفة بعمق العلاقة بين الفلسفة والأدب والفنون، وتأكيد الكثيرين منهم أيضاً بالمونولوغ الباطني الموحّد بينهم، تبقى مسألة المقاربة القائمة أبداً، أنّ للحياة والموت نصيباً في كلّ منهم، ومن هنا تتشابكُ جذورُ كلّ منهما بعناقٍ قد يطولُ أو يقصرُ ولكنّه لا يتفكّكُ أبداً.

theme::common.loader_icon