كلنا نحن السيدة فيروز... ولكن
كلنا نحن السيدة فيروز... ولكن
د. أنطوان الشرتوني
Wednesday, 06-Aug-2025 07:07

بعد مرور حوالى أسبوع ونيّف من رحيل الموسيقار اللبناني الكبير «زياد الرحباني»، وبعد الحزن الذي شعرنا جميعنا به وعبّر البعض عنه من خلال الإنحناء أو الركع أو حتى المرور بشكل بسيط أمام السيدة فيروز لعزائها... وبعد الصلوات والذكريات التي شاركناها على وسائل التواصل الإجتماعي الخاصة بنا... بعد كل هذا، حان وقت السكينة لنستوعب جميعنا الفاجعة التي أحلّت ليس فقط على لبنان، لكن أيضاً على العالم أجمع، ونتقبّل مراحل الموت. لذا كلّنا نُحبّ السيدة فيروز ونُحبّ أن نعبّر لها عن ذلك، لكن يجب إحترام خصوصية العائلة المفجوعة ومراحل الحداد.

الفقد، من أصعب المشاعر التي يمكن أن نتحدّث عنها في علم النفس بشكل عام وفي التحليل النفسي بشكل خاص. فبعد رحيل السيد زياد الرحباني، عمّ الحزن الذي لا يمكن التعبير عنه بسهولة. فلحظنا خلال مراسم الدفن والتعزية، كل معزٍ عبّر عن حزنه لوالدة «زياد» بطريقته الخاصة. ولا يمكن أن نحكم على طريقة التعبير عن الحزن، لأنّه هو أقوى بكثير من مشاعرنا وأحاسيسنا.

 

في زمنٍ صار فيه كل شيء علنياً، (على رغم من أنّني شخصياً وكدكتور في الأمراض النفسية) لا أحبّذ البتة، «العلنية» في مراسم الدفن... لأنّ هناك «حرمة» الموت وخصوصية الحزن، أي يجب إحترام حزن الآخر، ومن حقّه في البكاء من دون أن نشرح، أو أن نحلّل ذلك بعيداً من عدسات الكاميرات. الحفاظ على خصوصية الحزن هو شكل من أشكال الرقي الإنساني، أي أن نغضّ الطرف عن التفاصيل، أن نُسكِت ألسنتنا عن السؤال والتحليل، وأن نُمسِك أقلامنا عن الكتابة حين يكون الصمت أبلغ. فالموت صعب والفراق أصعب، لذا السكوت وعدم الإنخراط في تحليلات من هنا وهناك، يكون أفضل مسكّن للآلام.

 

مراحل الحداد ما بعد الفراق

 

من خلال نموذج «كوبلر- روس»، العالمة التي خصّصت حياتها لدراسة الموت، قسّمت «كوبلر- روس» الحداد إلى خمس مراحل:

 

أولاً، الإنكار، وكأنّ الشخص الذي خسر مُحبّه يقول لنفسه: «لا، هذا لا يمكن أن يحدث ذلك». ويعني ذلك بأنّ الشخص لا يتقبّل الواقع المؤلم مع الشعور بالذهول، عدم التصديق، وربما الانفصال عن الواقع. لذا دور الإنكار كآلية دفاعية نفسية موقتة (يمكن أن تمتد ما بين ساعات وأشهر وربما سنوات، وهنا نتحدّث عن الإنكار المرضي) يمنح الشخص وقتاً للتعامل مع الصدمة تدريجاً.

 

ثانياً، الغضب، وهو ليس دائماً منطقياً، لكنّه تعبير صادق عن الألم الداخلي. يمكن تفسير الغضب كأنّ الشخص يقول لنفسه «لماذا هو؟ لماذا الآن؟ أين العدالة الإلهية». فبعد الرجوع إلى الواقع الخارجي، يظهر الغضب كردة فعل طبيعية. قد يوجّه الشخص غضبه نحو الأطباء، أفراد العائلة، الله، أو حتى نفسه.

 

ثالثاً، المساومة، وهي مرحلة الأمل الممزوجة بالخوف، حين يحاول الشخص أن يجد مخرجاً من المصير المحتوم. وكأنّ الشخص يقول لنفسه «لو عاش فقط أكثر...» فهنا نجد نوعاً من تأجيل الواقع، لكن تنتهي هذه المرحلة بالإكتئاب وهي المرحلة الرابعة.

 

رابعاً، الاكتئاب، وهي مرحلة الحزن العميق، الإحساس بالفقد... هذه المرحلة هي طبيعية وليست مَرَضية بالضرورة. يشعر الشخص بأنّ المفقود لن يرجع، مات، وما الفائدة من الإستمرار...

 

لذا، في هذه المرحلة، يغوص الشخص في الحزن العميق. يبدأ بفقدان الاهتمام بالأشياء، يشعر بثقل الواقع، ويواجه مشاعر الوحدة، العجز، والخسارة... كل ذلك طبيعي. هي مرحلة وتنتهي وتلحق بها المرحلة الأخيرة من الحداد وهي التقبّل، المرحلة الخامسة، من خلالها يتمّ الإستسلام بشكل هادئ للواقع، وصولاً إلى سلام داخلي وتقبُّل الموت على أنّه حتمي وكوني (الجميع سيموت يوماً ما...).

 

والجدير بالذكر بأنّه لا يمرّ الأشخاص بالترتيب عينه (كوبلر – روس)، وقد يعود الشخص من التقبّل إلى الغضب، ثم إلى الإنكار... كما قد يبقى البعض في مرحلة واحدة لفترة طويلة، أو يتجاوز إحداها بالكامل.

 

الوداع للنابغة «زياد الرحباني»

 

في نهاية هذا المقال، لا يسعنا إلّا أن نقول «الله يرحمه» و»الله يطول بعمر سيّدتنا «فيروز»، وتحية لهذه «البطلة» التي كرّست حياتها للفنّ، المشكورة عليه، لأنّه بفضلها نُسقِط مشاعرنا وذكرياتنا الإيجابية في أغاني وألحان الأخوَين الرحباني وصوتها الملائكي...

 

كما كرّست حياتها كأم لحبيبنا «زياد» و»ريما» و»ليال»، وخصوصاً ابنها «هالي». وأنا شخصياً أفهم هذا العطاء، لأنّني أعمل مع أشخاص ذوي إحتياجات خاصة، وأعرف أهمية الصبر والمحبة.

 

وفي النهاية، «الله كبير»، أغنية ترافقني دائماً، وعرفتُ معناها أكثر وأكثر بعد رجوع «زياد» إلى المكان الذي ننتمي إليه.

theme::common.loader_icon