تدرس بريطانيا حالياً بجدّية أكبر مسألة الاعتراف بالدولة الفلسطينية، بحسب ما كشفه مسؤولان حكوميان بارزان، أمس، في تحوّل لافت دفع إليه الاشمئزاز الشعبي من صور الأطفال الجائعين في غزة، والضغط المكثف على رئيس الوزراء كير ستارمر من نواب داخل حزبه العمالي نفسه.
لم يسر ستارمر على خطى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي أعلن الأسبوع الماضي أنّ فرنسا ستعترف بدولة فلسطين. وأعلن رئيس الوزراء البريطاني، حينها في بيان، أنّ الاعتراف يجب أن يكون جزءاً من «خطة أوسع تؤدّي في نهاية المطاف إلى حل الدولتَين وإلى أمن دائم للفلسطينيِّين والإسرائيليِّين على حدٍّ سواء».
لكنّ المسؤولَين البريطانيَّين، اللذَين تحدّثا بشرط عدم كشف هويّتهما نظراً لحساسية النقاشات الداخلية، أوضحا أنّ الزخم يتزايد بسبب تفاقم الأزمة الإنسانية، مع ورود تقارير عن وفيات ناجمة عن الجوع في غزة، بعد شهور من القيود المفروضة على المساعدات من قبل السلطات الإسرائيلية.
لطالما دعم ستارمر حق الفلسطينيِّين في إقامة دولة مستقلة. لكنّ المسؤولَين أوضحا أنّه كان يعارض الاعتراف الفوري، لأنّه كان يعتبره مجرّد «لفتة رمزية» لن تُحسّن الأوضاع على الأرض، وقد تعقّد المفاوضات الرامية إلى التوصّل إلى وقف لإطلاق النار بين إسرائيل و«حماس».
لكنّ هذه الحجج لم تُرضِ أكثر من 250 نائباً من 9 أحزاب، من ضمنها حزب العمّال، وقّعوا رسالة موجّهة إلى ستارمر ووزير الخارجية ديفيد لامي، يدعون فيها بريطانيا إلى الاعتراف بدولة فلسطين خلال مؤتمر تعقده الأمم المتحدة هذا الأسبوع ويُخصّص لحل الدولتَين.
وعلى رغم من إقرار النواب بأنّ «المملكة المتحدة لا تملك القدرة على إقامة دولة فلسطينية حرة ومستقلة»، فقد أكّدوا أنّ الاعتراف سيكون له تأثير بسبب دور بريطانيا في نشأة دولة إسرائيل. ويرى مؤيّدون آخرون أنّ مثل هذه الخطوة ستكون بمثابة إشارة إلى أنّ الحكومة تعترف بالمأساة المتفاقمة في غزة، ولن تكتفي بموقف المتفرّج.
يدفع أعضاء في حكومة ستارمر أيضاً بهذا الاتجاه. واستدعى رئيس الحكومة الوزراء من عطلتهم لحضور اجتماع طارئ هذا الأسبوع بشأن الحرب في غزة، في أعقاب لقائه مع الرئيس ترامب يوم الاثنين في منتجع تورنبيري للغولف في اسكتلندا.
بدا أنّ ترامب منح ستارمر هامشاً أوسع للاعتراف بالدولة الفلسطينية. فبينما سخر من خطوة ماكرون قائلاً: «ما يقوله لا يهم؛ أنا أحبّه، لكنّ تصريحه لا يحمل أي وزن»، لم يحاول ترامب أن يُثني ستارمر عن الإقدام على الخطوة عينها.
عندما سُئل عن مسألة الاعتراف، أجاب ترامب عن ستارمر: «لن أتخذ موقفاً، لا أمانع في أن يتخذ هو موقفاً. أهم شيء الآن هو إطعام الناس. هذا هو الموقف الأول، لأنّ هناك كثيرين يعانون من الجوع».
ضغط ستارمر على ترامب لاستخدام نفوذه على إسرائيل لإدخال مزيد من المساعدات الغذائية إلى غزة، ويبدو أنّه حقق بعض التقدّم.
وأعلن ترامب أنّ الولايات المتحدة ستتعاون مع بريطانيا ودول أوروبية أخرى لإنشاء مراكز توزيع غذاء «يستطيع الناس دخولها من دون قيود». وكان هذا انتقاداً ضمنياً لنظام توزيع المساعدات الذي تديره مؤسسة غزة الإنسانية، ويشغلها متعهّدون أميركيّون وتدعمها إسرائيل. وقد قُتل المئات أثناء محاولتهم الحصول على هذه المساعدات.
كما قدّم ستارمر لترامب تفاصيل خطة أوروبية - بريطانية لتحقيق سلام دائم في غزة، بحسب ما أفادت به داونينغ ستريت. وناقش رئيس الوزراء هذه الخطة مع الرئيس ماكرون والمستشار الألماني فريدريش ميرتز.
وضع النقاش حول غزة ستارمر، المحامي السابق المتخصّص في حقوق الإنسان، في موقف حرج. فقد تعهّد بالتقيّد بالقانون الدولي في تعامله مع إسرائيل. ولهذا السبب أسقط طعن الحكومة السابقة في مذكرات التوقيف التي أصدرتها المحكمة الجنائية الدولية بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه السابق يوآف غالانت.
لكنّ ستارمر غالباً ما يتجنّب الخطوات الرمزية. واعتبر منتقدو الإعتراف بدولة فلسطين أنّ هذه الخطوة تندرج ضمن هذا النوع، ومن الأفضل استخدامها كورقة ضغط في مرحلة لاحقة من الأزمة. كما أشاروا إلى أنّها تطرح سلسلة من الأسئلة القانونية التي قد تُعقّد الأمور أمام ستارمر.
وأوضح كيم داروش، مستشار الأمن القومي البريطاني السابق وسفير المملكة المتحدة لدى الولايات المتحدة: «إنّها مسألة سياسية، لكنّها تتطلّب مجموعة من المعايير القانونية. هل هناك حكومة تسيطر على أراضي الدولة؟ هل يمكن إقامة علاقات ديبلوماسية معها؟».
يرى آخرون أنّ بريطانيا كانت متردّدة أكثر من اللازم في الضغط على إسرائيل. فقد علّقت بعض شحنات الأسلحة إلى إسرائيل العام الماضي. كما أعادت تمويل وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيِّين، التي كانت إسرائيل قد اتهمتها بالتواطؤ مع عناصر من «حماس».
وفي حزيران، فرضت الحكومة البريطانية عقوبات على وزيرَين من اليمين المتطرّف في حكومة نتنياهو (إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش) بسبب ما وصفته بدورهما في التحريض على العنف ضدّ الفلسطينيَّين في الضفة الغربية وغزة. وقد اتخذت بريطانيا هذه الخطوة بالتنسيق مع أستراليا وكندا ونيوزيلندا والنرويج، في تحرّك مشترك، توقّع بعض الديبلوماسيِّين تكراره في ملف الاعتراف بفلسطين.
كانت فرنسا أول دولة من مجموعة السبع تعلن اعترافها بدولة فلسطينية. ووصف ماكرون هذه الخطوة بأنّها جزء من «التزام فرنسا التاريخي بالسلام العادل والدائم في الشرق الأوسط». وقد اعترفت كل من النرويج وإسبانيا وإيرلندا بفلسطين كدولة العام الماضي.
أمّا نتنياهو فأدان هذه الخطوة، قائلاً إنّ الدولة الفلسطينية قد تتحوّل إلى «منصة انطلاق لإبادة إسرائيل».