زياد الناقد، سكن"الأم الأعظم في وطن النجوم"
زياد الناقد، سكن"الأم الأعظم في وطن النجوم"
نور عبيد
Saturday, 26-Jul-2025 18:47

زياد الرحباني: صانع الضوء في حنجرة السماء، لم يكن زياد الرحباني مجرّد موسيقي، بل كان نَفَسًا آخر في رئة الوجدان اللبناني، وصوتًا يخرج من بين ضلوع الوطن الجريح ليعيد ترتيل الأمل على أنغام الغضب النبيل.

 

إن كانت فيروز هي "قطعة من سماء"، فزياد هو ذلك النسيم العاصف الذي هزّ الأفق ليوقظه، ليصقل صوتها بالمعنى، ليخلع عنه عباءة الحنين الرومانسي ويمنحه جرأة الوجع، وحدّة السؤال.

 

صقل فيروز ، لا كأمّ فحسب، بل كصرخة. أدخلها إلى تلافيف الادمغة، إلى الانفاس، إلى الوجدان، إلى القلوب، إلى الأحياء المتعبة حيث يسهر القلب وعيونه مفتوحة على الأسى.

جعلها تغنّي للهمّ، للحبّ المشوّه، للسياسة العمياء، للوطن الذي فقد تعريفه، وللبشر الهاربين من كلّ شيء إلا من صوتها.

 

زياد الرحباني، بصوته الواثق، الساخر، المتوجّع،
أعطى لفيروز تيجاناً من ألق، تيجان تحيي لبنان بعد كل موت، ومع كل احتضار.

جعلها الأم الأعظم في وطنٍ ما عاد يعرف أمّه. هي التي غنّت للقدس، ثم لشارع الحمرا، ثم للمدينة الباردة خلف الزجاج، هي التي بفضل زياد، باتت تغنّي لكلّ من فقد بيته أو وطنه أو نفسه.

 

فيروز، في زمن زياد، لم تعد فقط نشيد الصباح، بل أصبحت وجع الليل، ومرآة السؤال، وقضايا الامة، وموسيقى الإنسان حين يعجز عن الكلام.

زياد الرحباني ليس مجرد موسيقي أو كاتب مسرح أو فنان متألق، هو صوت الوجدان الجريء حين يصير الوطن هزيلاً، وهو السؤال حين يُمنع الجواب. اختار السخرية سلاحًا، والتهكّم وسيلةً، والمسرح منبراً فصار جزءًا من ذاكرة اللبنانيين، وصار وجعه نكتة، ونكتته وجعا.

 

هو ابن فيروز، لكنّه لم يكن ظلّها، بل روحٌ متمردةٌ سكنت صوتها، وحملته إلى أماكن جديدة، منسية، وبعيدة.

سكن صوتها وحمله إلى حيث الحنين يختلط بالتمرّد، والصلاة تتقاطع مع الغضب المقدّس. أغانيه لفيروز ليست فقط ألحانًا، بل حالات شعورية نابضة: في "كيفك إنت"، لا نسمع فقط صوت فيروز، بل نسمع خيبة الوطن، رجفة الحبّ، وارتباك العائد من خذلان طويل.

 

وعند "بكتب اسمك يا حبيبي"، نكتب اسم الوطن والحلم والذاكرة الموشومة على حيطان الوجع يسكن عروقنا، ويصعد بارواحنا إلى قبة الجلد.

سكن زياد فيروز ، فجعل منها أمًّا عظيمة لا فقط لأغنيات الأمل، بل لأوجاع جيل لا يعرف كيف يخرج من الهاوية. فيروز معه لم تعد فقط صوت الصباح، بل صوت الحقيقة القاسية التي تهمسها أمّ في أذن ابنها:
"ما في شي..بس في كتير."

 

يا زياد "شي فاشل هالبلد" كان بإمكانك ان تغادره. لكنك لم تهاجر، لم تهرب. بل بقيت لتعري العبث، وتعلّق على جدران مسارحنا مرايا ساخرة، فنسخر ونبكي معًا، نضحك ونبكي معاً.

زياد ليس مبدعاً فقط. هو حالة، وظاهرة، ونموذج من عالم المثل. هو وجدان هذا الوطن المكسور، المهشّم.
هو قطعة من سماء، نزلت لتقول: لا تصدّقوا الصور، ولا الخطابات، ولا القادة. صدقوا النغمة حين ترتجف، والضحكة حين تدمع، وصدقوا زياد، لأنه آخر من يملك "النية الطيبة" في بلادٍ اعتادت الإفك والكذب.

 

رحيل زياد، غصة في كيان لبنان، وذبحة في صدر لبنان، وندبة في ضمير لبنان.

رحلت زياد، وبقي الناقد الساخر يسكننا، وصوت فيروزك يصدح في أذن الجوزاء.

وحيث لا عزاء، لفيروز اخلص التعازي..

بروفسور نور عبيد

theme::common.loader_icon