في مدينة السويداء جنوب سوريا، يصف السكان آثار موجة من العنف الطائفي. بعد أيام عدة من الاحتماء داخل منزله مع اشتداد أعمال العنف في مدينة السويداء الجنوبية، خرج حسام (33 عاماً) يوم الخميس لتفقّد الأضرار. وأينما ذهب، كانت رائحة الموت تفوح في الأجواء.
أشار حسام، الذي طلب عدم ذكر اسمه الكامل خوفاً من الانتقام، إلى أنّ السيارات المحترقة كانت متناثرة في الطرقات. نوافذ المتاجر محطمة ورفوفها منهوبة. وبرك الدماء تلطخ الشوارع، مضيفاً: «رائحة الجثث في السويداء لا تُحتمل. الرائحة في كل مكان».
منذ يوم الأحد، تشهد محافظة السويداء في جنوب سوريا موجة عنف أودت بحياة أكثر من 500 شخص، وفقاً للمرصد السوري لحقوق الإنسان ومقرّه بريطانيا. إنّها أكثر موجات العنف دموية في هذه المنطقة منذ ذروة الحرب الأهلية السورية المستمرّة منذ نحو 14 عاماً، وقد زادت من مخاوف السكان مثل حسام، من أنّ السلطات الجديدة في سوريا غير قادرة على تأمين حمايتهم.
ويُقرّ حسام أنّه حاصر نفسه في منزله لأيام فيما كانت الاشتباكات بين القوات الحكومية وميليشيات من الأقلية الدرزية تدور من حوله. وبعدما هدأ القتال بفعل هدنة، غادر منزله وجال في المدينة لتفقد الأضرار.
في مستشفى السويداء العام، رأى سيارات تُسرِع إلى مدخل الطوارئ كل بضع دقائق، تقلّ جرحى من الاشتباكات. آخرون قدموا بحثاً عن أقارب فقدوا الاتصال بهم ويُخشى أن يكونوا قد قتلوا.
وأضاف، أنّ المشرحة كانت مكتظة بجثث الجنود والمدنيِّين القتلى، بحسب ما شاهده وممرّضة في المستشفى. وقد مُدِّدت عشرات الجثث الأخرى في ساحة خارجية، مغطاة بأغطية بعد نفاد أكياس الجثث من المستشفى.
كانت هذه ثالث موجة رئيسة من العنف الطائفي في سوريا منذ الإطاحة بالطاغية بشار الأسد العام الماضي. وأثارت موجة العنف هذه مجدّداً مخاوف من أنّ البلاد قد تنزلق إلى صراع طائفي بينما يسعى القادة الجدد إلى فرض سلطتهم على بلد أنهكته الحرب الأهلية الطويلة.
في آذار، شاركت القوات الحكومية في حملة قتل على الساحل السوري أدّت إلى مقتل نحو 1600 شخص، معظمهم من الأقلية العلوية، بحسب المرصد. وفي أيار، اندلعت أعمال عنف قرب دمشق أسفرت عن مقتل أكثر من 100 شخص، غالبيتهم من الطائفة الدرزية.
بدأت أحداث السويداء بسلسلة من الهجمات المتبادلة وعمليات الخطف بين قبائل بدوية سُنيّة وميليشيات درزية تتبع ديانة سرّية متفرّعة من الإسلام.
ومنذ تسلّم الحكومة الجديدة السلطة في كانون الأول، أمّنت مجموعات من الميليشيات الدرزية السويداء، ورفضت حتى الآن دمج قواتها ضمن الجيش الوطني الجديد.
ومع تصاعد الاضطرابات، نشرت الحكومة عناصر عسكرية في السويداء في محاولة لتهدئة الصراع. لكنّ بعض قادة الميليشيات الدرزية، الذين لا يثقون بالسلطات الإسلامية الجديدة في البلاد، اعتبروا أنّ القوات الحكومية ذات الغالبية السُنيّة قادمة لمهاجمة الدروز، فعمدت تلك الميليشيات إلى التعبئة لصدّ القوات الحكومية، واندلع قتال بين الطرفَين.
تُظهر لقطات انتشرت عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وتحققت منها صحيفة «نيويورك تايمز»، رجالاً بلباس عسكري يُجبرون رجلَين على حلق لحاهم بالقوة، في مشهد اعتُبر على نطاق واسع إذلالاً متعمّداً. ويَظهر في أحد المقاطع، مسلّحون يرتدون بزّات عسكرية وهم يحلقون لحية رجل درزي مسنّ في إحدى قرى السويداء باستخدام شفرات الحلاقة. المنزل الظاهر في الفيديو يتطابق مع صورة نشرتها وسائل إعلام رسمية سورية عام 2020.
وفي فيديو آخر، يظهر رجلان مسلّحان، أحدهما يرتدي زي الشرطة العسكرية السورية، واقفَين فوق رجل مغطى الوجه بالدماء. يُثبِّت أحدهما الرجل أرضاً بينما يجزّ لحيَته بمقص. لم تتمكن «نيويورك تايمز» من التحقق من موقع تصوير الفيديو بدقة، إلّا أنّ مقطعاً آخر يُظهر الرجل نفسه محاطاً بمسلّحين في السويداء.
أدّت دوامة العنف إلى تدخّل عسكري من قبل إسرائيل. وأفاد المرصد السوري بأنّ ما لا يقل عن 516 شخصاً، بينهم جنود ومقاتلون ومدنيون، قُتلوا في أعمال العنف التي تلت ذلك.
وفي بيان صدر يوم الخميس، أعلن مبعوث الأمم المتحدة الخاص إلى سوريا، غير بيدرسون، أنّ هناك «ادّعاءات خطيرة بعمليات إعدام خارج نطاق القانون وعمليات قتل تعسفية»، فضلاً عن تقارير تتحدّث عن نهب، معاملة مُذلّة للمدنيِّين، وتشويه للجثث.
ولم يردّ متحدث باسم الحكومة السورية فوراً على طلب للتعليق بشأن هذه الاتهامات. أمّا الرئيس السوري الجديد، أحمد الشرع، فزعم في خطاب متلفز أنّ السلطات «ستحاسب من اعتدى على أهلنا الدروز وأساء إليهم، فهم تحت حماية ومسؤولية الدولة».
بالنسبة إلى الدروز في مختلف أنحاء البلاد، عمّقت هذه الأحداث المخاوف من أنّ القادة الجدد إمّا غير راغبين أو غير قادرين على حماية الأقليات السورية من الفصائل الأكثر تطرّفاً داخل الأجهزة الأمنية ذات القيادة السنّية.
نزار (45 عاماً)، درزي آخر من سكان السويداء، كان في مكان عمله وسط المدينة يوم الأحد حين اندلع القتال بين البدو والميليشيات الدرزية التي تُسَيطر فعلياً على المدينة منذ انهيار نظام الأسد. طلب نزار استخدام اسمه الأول فقط خشية الانتقام.
وكشف أنّه حاول على مدى اليومَين التاليَين العودة بسيارته إلى منزله للانضمام إلى زوجته وبناته، لكنّه كان يُمنَع في كل مرّة عند حواجز، حيث حذّره المقاتلون الدروز من وجود قناصة بدو على الطريق. شاهدَ سيارات تقلّ جرحى، بعضهم ينزف في المقعد الخلفي.
وأضاف أنّه وصل فجر الثلاثاء إلى منزل أحد أقاربه عبر طريق خلفي، وعندما التقى عائلته شعر بالارتياح يغمره. لكن، بعد ساعات، اختفت الميليشيات الدرزية التي كانت تحمي الحي من الشوارع، ودخلت القوات الحكومية، وأقرّ أنّه خشي أن تقوم هذه القوات بهجمات انتقامية ضدّ السكان الدروز.
وبعد نحو 30 دقيقة، قال إنّ جندياً ملثماً طرق بابه ووجّه سلاحه نحوه. طلب الجندي بطاقته الشخصية، وسأله إن كان يملك سلاحاً، ثم أمره بتسليم مفاتيح سيارته بحجة تفتيشها، مضيفاً: «ثم غادروا، وأخذوا السيارات معهم».
ومع تصاعد العنف، امتلأ مستشفى السويداء بمئات الجرحى وآخرين قتلوا في الاشتباكات، وفقاً لشهادات سكان وممرّضة طلبت عدم الكشف عن اسمها خوفاً من الانتقام، وكشفت أنّ قوات الأمن الحكومية حين دخلت المستشفى في وقت سابق هذا الأسبوع، دمّرت الكاميرات وسرقت الأدوية من مستودع المستشفى.
وأضافت أنّ الجنود منعوا الطاقم الطبي من نقل بعض الجثث إلى المشرحة، بل ألقوها في ممرّ داخل المستشفى، وفقاً لها ولمقطع فيديو تحقّق منه المرصد السوري واطّلعت عليه «نيويورك تايمز».
وبحلول صباح الخميس، ومع تراجع حدّة القتال، بدأ السكان يتدفّقون على المستشفى طلباً للعلاج أو بحثاً عن أقارب يُخشى أن يكونوا قد قُتلوا ونُقلوا إلى هناك.
وأقرّ حسام أنّه وصل إلى المستشفى حوالى التاسعة والنصف صباحاً. وفي ساحة المشرحة، شاهد جثثاً موضوعة في صفوف، بعضها مغطى بالأغطية: «بعض الجثث لم تكن حتى مغطاة». وروى أنّ أحد الرجال كان يحاول قراءة الأوشام على جسد جثة ملقاة في الساحة ليتأكّد ما إذا كانت تعود لإبنه. كان الوشم يحمل اسم شقيقه على الذراع اليمنى وكلمة «أمي» على اليسرى، وعندما أدرك الأب أنّ الجثة تعود لإبنه، انهار باكياً.
في أماكن أخرى من السويداء، كان العويل يتردّد في الأحياء مع دفن العائلات لأقاربها، بحسب السكان. وأوضح البعض أنّهم غطّوا الجثث التي تُرِكت في العراء بقطع من الكرتون أو السجاد لحمايتها من الشمس، فيما كانوا عاجزين عن مغادرة منازلهم لدفنها بسبب استمرار القتال.
وفي وقت لاحق، أكّد حسام أنّه شارك في دفن 4 من جيرانه: «الجميع كانوا ينوحون ويبكون. كل شخص كان يبكي. الحي بأكمله كان ممتلئاً بالوداع».