«أكثر الناس لا يُكافحون من أجل فهم الحقيقة، بل يكافحون من أجل إثبات أنّ ما يؤمنون به هو الحقيقة».. باروخ إسبينوزا
نعيش في لبنان منذ عقود «جنون القادة» أو ما يُسمّى في علم النفس بمتلازمة «غطرسة المُمسكين بمواقع القرار». يعتقد الإنسان الذي مالت طباعه ونفسيّته نحو «متلازمة الغرور أو الغطرسة» أنّه كفء وقدير أكثر من سائر البشر، ولا بل فوقاني يتمتّع بمهارات خارقة ليست متوفّرة عند غيره، ليقع عندها بما يُسمّى «العجرفة اللامحدودة أو الغطرسة والغرور».
أثبتت التجارب على مرّ التاريخ، أنّ تمركز السلطة في قبضة إنسان واحد لفترات طويلة من الزمن أدّى حتماً إلى بسط روحية الاستبداد والديكتاتورية، عملاً بقول السياسي والمؤرّخ البريطاني Lord Acton الذي جاء على لسانه في القرن التاسع عشر: «إنّ السلطة مُفسِدة، لكنّ السلطة المطلَقة فسادٌ مطلق»؛ فالفسادُ المطلق لدى بعض القادة أدّى إلى خراب وإفلاس مطلق، وخصوصاً الساسة الذين استغلّوا الأنظمة السياسية للمحافظة على مراكزهم في مواقع القرار لأطول فترة ممكنة، ساهمت غطرستهم وصفقاتهم المشبوهة ونزعتهم المرضية للسلطة المطلقة غير المشروعة إلى تحويل دولهم إلى دول فاشلة بالمطلق.
هو جنون عظمة القادة ما بين الغطرسة والمرض النفسي... هو مرضٌ نفسي يُصيب شخصية وسلوك أي فرد (أو مجموعة أفراد) يتولّى أو يتولّون أي نَوعٍ من السلطة (سياسية أو دينية أو إدارية أو تجارية). ويستفحل هذا المرض أكثر كلّما علت درجة السلطة والنفوذ، وكلّما ضَعُفَت أو غابت الضوابط الرقابية عليهما، وكلّما طالت الفترة الزمنية التي يقضيها هذا الفرد على كرسي السُلطة.
متلازمة الغرور، كما يُعلِّم أساتذة علم النفس الباطني خصوصاً والنُخَب الثقافية عموماً، هي حالة نفسية - سلوكية تُصيب عادةً الشخصيات القيادية التي تدّعي النجاح، أو الانتصارات الوهمية، أو كذبة الانتصارات... أو تحويل الموت والهزائم والركام والأنقاض إلى انتصارات كاذبة ووهمية، فيؤدّي الإفراط في الثقة الكاذبة بالنفس إلى سلوكيات متعجرفة وخطيرة على غرار أنا ولا أحد.
المصطلح مشتق من الكلمة اليونانية (هوبريس) التي تعني «التطاول على الآلهة»، أو الخلط بين البشري والإلهي و«التحدّي الأعمى للقوانين» في عقولهم المريضة أو المستأجرة - المؤجّرة من الأيديولوجيات التوليتارية والإيديولوجيات الثيوقراطية المشتبهة والمشبوهة في عصرنا الحديث... التي تعود الأسباب الرئيسة فيها أولًا.. إلى وَهم، أو كذبة «النجاح المتواصل»، وتراكم الإنجازات القاتلة من دون «نجاح» أو فشل ذي معنى.
وهي أصبحت أسيرة «السلطة المطلقة»، وغياب الرقابة، أو محاسبة «أنصاف الآلهة» البشرية، وكذبة «القادة الآلهة»، الذين يعيشون ويموتون في «العزلة» لرسم هالة وهمية، والإنفصال الشخصي والجماعي عن الواقع بسبب الإطراء الكاذب الدائم من المحيطين المُنوَّمين...
ولطم العقول المحنطة بفعل فاعل تاريخياً، وذلك بحسب العرض والطلب المرحلي والاستراتيجي، أولئك الذين يعتقدون أنّهم يعيشون (الأعراض الشهيرة) وفقاً للطبيب النفسي الشهير ديفيد أوين... نعم، أولئك الذين يعيشون «الإيمان بعدم المساءلة»، والإعتقاد بأنّ أفعالهم لا تخضع إلى المحاسبة «فوق القانون البشري» و»التحدّث بلهجة نبوية»: واستخدام خطاب وعظي بعيد عن الواقع، و»الاستهانة بالمخاطر»، وتجاهل التحذيرات بدعوى «الثقة بالحدس»، وفقدان الاتصال بالواقع، واعتبار الذات ومصالحها مطابقة لمصلحة الحزب أو المحور أو المنظومة الممانعة أو «الدولة الإلهية».
هذا من دون ذكر «التصرّفات الاستعراضية» على أنقاض التاريخ الشبهة، المفتعل، المشبوه، والبذخ في الإنفاق أو المشاريع الضخمة غير المدروسة نصرة لآلهة وأنصاف آلهة غير موجودة إلّا في العقول الخبيثة من ناحية والعقول المريضة المُغيّبة من ناحية أخرى (أولئك الذين يرفضون النقد)، على اعتبار أنّهم آلهة، أو هم ناطقون بإسم الآلهة، واعتبار المعارضين أو أي معارضة مجرّد «خوارج» أو «مرتدّين» أو «أغبياء» في أقل تقدير أو «أعداء».
وهناك أمثلة تاريخية وسياسية عديدة... منها الشخصية/السياق، التجلّي الأبرز للمتلازمة «نابليون بونابرت» على سبيل المثال وليس الحصر عند غزو روسيا 1812، حين تجاهل تحذيرات الطقس والتموين... و»المديرون التنفيذيّون» في إفلاس شركة «إنرون» بسبب احتيال محاسبي ناتج من الغرور والنزعة الفوقية والإلهية في عقول البعض... و»قادة سياسيّون» في حرب العراق 2003 مثال وتجاهل تحذيرات المخابرات والأنتليجنسيا العسكرية... وحروب محوَر إيران «الإلهية» المانعة والممانعة ضدّ العرب بحجة تمهيد الطريق «لتحرير القدس»... وتحرير، أو احتلال 4 عواصم عربية على طريق القدس لأكثر من 4 عقود... تاركةً وراءها حتى هذه اللحظة دماراً وموتاً شاملاً هي وشريكتها إسرائيل في (سياسة تحالف فك الكمّاشة الغادر) التي لم تُذكَر في كتاب أو قاموس أو ناموس...
«الفرق بين متلازمة الغرور وبين النرجسية» هو أنّ النرجسية، اضطراب شخصية دائم (يُركِّز على الجاذبية والاستحواذ كما نرى ونشاهد في أيامنا الوجودية هذه). في حين أنّ «متلازمة الغرور» هي حالة موقتة تُثار بالسلطة والنجاح، وتختفي بزوالهما. أمّا كيفية التعامل معها؟
فتتمّ بالضوابط المؤسسية والمؤسساتية، وفصل السلطات، ووجود هيئات رقابية قوية. والتنوّع في الفرق يتمّ من خلال تضمين وتمكين أشخاص جدد يطرحون أسئلة غير مريحة لأولئك المستفيدين من تلك الأمراض العقلية الفوقية الإلهية، وتشجيع (التواضع القيادي) القادة على الاعتراف بأخطائهم، لأنّ الغرور برأي ويليام شكسبير «جريمة العقل الكبرى».
فكلّما ارتفع البناء العشوائي والفوضوي غير القائم على أسس علمية وهندسية وأرضية صالحة ومؤهلة للبناء، ازداد خطر السقوط النهائي أو بكلمة (واحدة) يُصبح السقوط «حتمياً».
الخلاصة، أنّ «متلازمة هيبرس» هي التمثيل الحقيقي لعقلية معظم زعماء وقادة وأصنام بلدنا هذا من دون منازع أو تغيير يُذكر أو لا يتجرّأ أحد على ذكره.
وعي الضرورة أيّها السياسيِّون والساسة. لقد ربط الفيلسوف باروخ إسبينوزا الحرّية بالوعي كمتلازمتَين للحياة البشرية الطبيعية، وربط الضرورة بالأسباب التي تفضي إلى الوعي، بالتالي إلى الحرّية!