ما بين «سوريا المتعافية» و«سوريا المقسّمة»
ما بين «سوريا المتعافية» و«سوريا المقسّمة»
جوني منيّر
Thursday, 15-May-2025 07:34

هي الزيارة الرسمية الخارجية الأولى للرئيس الأميركي المثير للجدل دونالد ترامب. وعلى طريقة «المفاجآت» التي يتميز بها سلوكه السياسي، جاءت زيارته عاصفة لناحية المواقف السياسية التي أطلقها، وخصوصاً ما يتعلق بإعلانه رفع العقوبات عن سوريا، ومن ثم لقائه بالرئيس السوري أحمد الشرع. في وقت بقي على تجاهله إلى حدود الإزدراء تجاه رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو.

كان معروفاً أنّ ترامب يهدف للعودة من رحلته الخليجية بصفقات تجارية وتعهدات إستثمارية تفوق التريليون دولار. فهو سعى لمخاطبة الشارع الأميركي والقطاع الإقتصادي بعد قراراته الجمركية التي ارتدّت سلباً على شعبيته، في وقت يستعد الحزب الجمهوري لإحكام قبضته على الكونغرس في الانتخابات النصفية المقبلة، والتي عادةً ما تعطي غالبيتها للحزب المعارض. من هنا كان مفهوماً أن يعمد ترامب لتخصيص الجزء الأول من خطابه لمخاطبة الأميركيين. فكرّر هجومه على سلفه جو بايدن، وكرّر كلامه الواعد حيال مستقبل الاقتصاد الأميركي. وقد أفرد ترامب متسعاً من الوقت لهذا الجزء «الأميركي» الذي أراده. ويدرك ترامب جيداً معنى «الهدية» التي تلقّاها من حركة «حماس»، عبر تدشين قدومه إلى المنطقة بإطلاق سراح آخر رهينة لديها تحمل الجنسية الأميركية. ذلك أنّه معروف مدى التأثير الإيجابي الذي تحدثه مسائل من هذا النوع لدى الأميركيين تجاه نجاح مساعي رئيسهم.

 

وصحيحٌ أنّ ترامب تمكّن في جولته من تحقيق أهدافه المالية والإقتصادية، إلّا أنّ مفاجأته السياسية الكبرى كانت بإعلانه رفع العقوبات المفروضة على سوريا، وأتبع ذلك بلقاء مثير مع الشرع، وتلاه إطراء عبر الإعلام على مزاياه القيادية. صحيحٌ أنّ ترامب يهوى المفاجآت واعتماد الأساليب الصادمة، لكن ما أعلنه جاء نتيجة مفاوضات وتفاهمات حيكت عبر القنوات الخلفية وبعد نقاش مستفيض داخل الدوائر المعنية.

 

وبات معلوماً أنّ ملفات عدة كان تمّ التفهم حولها بين الشرع وإدارة ترامب، سمحت بفتح الطريق أمام قرار إعادة إنعاش الإقتصاد السوري. والتقارير الديبلوماسية كانت توصلت إلى اقتناع بأنّ الشارع السوري وعلى مختلف انتماءاته، بات مرهقاً ومتعباً وجائعاً في كثير من الأحيان، وبالتالي فهو بات جاهزاً للموافقة على قرارات كانت تُعتبر من المحرّمات مقابل تحقيق إنفراجات إقتصادية. لكن وفي حال ترك الأوضاع تتفاقم، فالأمور ستصبح مؤهلة للإنحراف إلى اتجاهات خطيرة. فالسلطة في دمشق ستصبح أكثر ضعفاً، وستتحول سوريا أفغانستان ثانية. وخلال التواصل الأميركي مع الشرع، والذي حصل عبر قنوات أمنية، تمّ البحث في كل النقاط المطلوبة، بدءاً من مستقبل مرتفعات الجولان والتطبيع مع إسرائيل، ومروراً بموضوع العناصر الأجنبية والمجموعات المتطرفة وضرورة السيطرة عليها وإلزامية حماية التنوع الطائفي، وانتهاءً بملف منع إيران من العودة إلى سوريا. وما بين هذه العناوين الثلاثة ملاحق إضافية أكثر تفصيلاً.

 

في هذا الوقت، كان نقاش من نوع آخر يدور في الغرف المغلقة، وتشارك فيه إسرائيل، ويتمحور حول «أي سوريا تلائم مصالحنا». وتبلور اتجاهان عريضان: الأول يدعو إلى التقاط سوريا الآن كونها اللحظة المناسبة، ومساعدتها في إعادة بناء مؤسسات الدولة، ولكن تحت الرقابة الغربية، وبما يؤمّن إبعاد روسيا وإيران عنها، وهي مصلحة غربية لا بدّ من تحقيقها. وستتولّى دول الخليج الغنية احتضان الإقتصاد السوري وإعادة إنعاشه من خلال تشجيع الإستثمارات فيه، وفي الوقت نفسه دفع الإصلاحات السياسية قدماً وصولاً إلى دستور جديد يؤمّن التعددية ويحميها عبر صيغة ملائمة. وستبقى سوريا تحت الرقابة الأمنية والعسكرية لتركيا، وفي الوقت نفسه سيكون اقتصادها مربوطاً بالأوكسيجين الخليجي.

 

لكن الرأي الثاني، والذي كانت تشجعه الحكومة اليمينية الإسرائيلية، فيرتكز على مفهوم آخر، يعتبر أنّ الظروف أصبحت ناضجة للدفع في اتجاه تفتيت سوريا، وبالتالي تقسيمها لاحقاً وفق كيانات مذهبية وطائفية، وهو ما سيفتح الباب واسعاً لنقل «العدوى» سريعاً في اتجاه البلدان المجاورة مثل لبنان والعراق والأردن. وكان وزير المال الإسرائيلي بسلئيل سموتريتش قد تحدث بوضوح في وقت سابق عن أنّ الحرب الحالية لا يمكن أن تنتهي إلّا بتقسيم سوريا. ولا حاجة للشرح بأنّ مشروع اليمين الإسرائيلي يقول بضرورة إبقاء سوريا ضعيفة وصولاً إلى تقسيمها لاحقاً. أفلا يردّد نتنياهو دائماً أنّه يهدف إلى تغيير وجه الشرق الأوسط؟

 

لكن الرئيس الأميركي اختار اتباع نهج السياسة الواقعية، متجاوزاً حال الجمود نتيجة العقوبات المفروضة. وعلى رغم من ارتفاع أصوات الذين يؤيدون التوجّه الثاني، بأنّ من السذاجة الرهان على أنّ قيادة الشرع ستؤدي في نهاية المطاف إلى ديموقراطية ليبرالية، إلا أنّ فريق ترامب رأى الأمور من منظار آخر. فسوريا ضعيفة ومقسّمة لن تخدم المصالح الأميركية، أما سوريا موحّدة ومستقرة فستحقق أهدافاً كثيرة تصبّ في إطار المصالح الأميركية. فصحيح أنّ العلويين والدروز والأكراد والمسيحيين فقدوا الثقة بالسلطة القائمة في دمشق، إلّا أنّه يمكن إصلاح ذلك من خلال نظام سياسي جديد يمنحهم بعضاً من الإستقلالية. كذلك فإنّ دمشق لن تتمكن من إعادة بناء جيش كبير وقوي قادر على تشكيل تهديد لإسرائيل والمنطقة. ووفق هؤلاء، فإنّ سوريا المتعافية ستحترم السيادة اللبنانية، وستعمل على تثبيت الحدود والمساعدة على إقفالها، فيما سيؤدي انتشار الفوضى إلى تسلل إيران مجدداً مرّة عبر الحدود العراقية وصولاً إلى التغلغل عبر التنظيمات المتناحرة، والتي ستؤمّن لها إيران المال والسلاح، ومرّة أخرى عبر الحدود اللبنانية ومن خلال «حزب الله» الذي رسخت المجموعات الحاضنة له مواقع قوية ومتداخلة عبر الحدود في الهرمل وفي البقاع الغربي أيضاً وعبر مجموعات متعاونة عند الحدود الشمالية.

 

لذلك تعتقد إدارة ترامب أنّ «سوريا المتعافية» ستؤدي إلى نتائج أفضل على المستوى اللبناني، وأيضاً لحماية الأقليات، وهي لن تشكّل تهديداً لإسرائيل.

 

وفي خطابه في السعودية مدّ ترامب اليد لإيران، ولكن مع تحذير شديد اللهجة. صحيح أنّه أبدى لاحقاً اعتقاده بأنّ إيران ستوقّع التسوية الجاري التفاوض حولها، لكنه يحمل قلقاً ضمنياً من أن تكون إيران تعمد لاستهلاك الوقت بالتفاوض. وهذا ما يفسّر استمرار إدارته في وضع عقوبات جديدة بهدف إقفال طريق التراجع أمام طهران.

 

ووفق ذلك تصبح صورة المنطقة أكثر وضوحاً من المنظار الأميركي: إخراج إيران من كل الساحات التي كانت تشكّل مناطق نفوذ لها في مقابل استعادة حضورها الإقتصادي على المستوى الدولي، وإحلال المرجعية الخليجية (بقيادة السعودية) على مستوى المنطقة. وهذا ما يطاول لبنان وسوريا، مع فارق النفوذ العسكري التركي في سوريا، والذي سيكون منظّما مع إسرائيل. ولذلك تعمّد ترامب «إهداء» قرار رفع العقوبات بناءً لطلب ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان. لكنه وعند لقائه بالشرع في حضور بن سلمان، حضر الرئيس التركي ولو عبر الهاتف. المشهد كان معبّراً. ولكن ترامب منح مساحة أكبر لولي العهد السعودي في النزاع الصامت على النفوذ في سوريا. ولا شك في أنّ الشرع فهم الإشارات جيداً.

 

أما بالنسبة إلى لبنان الذي حضر مرّات عدة في كلام ترامب، فهو بدا كمن يقول أن ليس فقط لا عودة إلى الوراء بل أيضاً يجب أن نتقدّم إلى الأمام وإلّا... ألم يقل إنّ فرصة لبنان ليكون مزدهراً وفي سلام مع جيرانه تأتي مرّة في العمر.

 

يرحل ترامب عن المنطقة بعدما حقق أهداف زيارته «وحبة مسك»، وهو يستعد لإقفال آخر ملفاته أي التسوية مع إيران. لكن التجارب التاريخية الصعبة علمتنا دائماً أنّ التصادم في الرؤى بين واشنطن وتل أبيب حول القضايا المحورية في المنطقة كانت تكسب فيها بداية واشنطن، ولكنها سرعان ما تعود وتنقلب لمصلحة إسرائيل، بعد أن تعود وتفرض رؤيتها. هكذا في حرب العام 1967 يوم احتلت إسرائيل الضفة الغربية رغماً عن الأميركيين. وهكذا أيضاً في حرب لبنان عام 1982 حين عانى فيليب حبيب من الأهداف الشرهة لإسرائيل، والتي عادت وأشعلت لبنان عبر «حرب الجبل»، وجعلت الشرعية اللبنانية في أسوأ مراحل ضعفها. وخلال المفاوضات لإحلال السلام كانت وجهة النظر الإسرائيلية هي الغالبة، والحرب الدائرة في غزة واتفاق وقف النار في لبنان شواهد يومية في هذا المضمار. وبالتالي يصبح السؤال المطروح، ما إذا كان الدفع الذي يتولاه ترامب في اتجاه «سوريا المتعافية» سيشكّل الوجهة النهائية لمسارها، أم أنّ وجهة نظر اليمين الإسرائيلي ستعاود ظهورها مجدداً وفي الوقت الذي يلائم الحسابات الإسرائيلية؟

 

عسى ألّا تتكرّر التجارب التاريخية.

theme::common.loader_icon