صيّاد الغرابة
صيّاد الغرابة
اخبار مباشرة
محمد وسام مرتضى

وزير الثقافة

Saturday, 10-May-2025 06:31

ليس جرمانوس جرمانوس شاعراً فحسب، بل هو قبل كلِّ شيء صيّادُ الغَرابةِ ومقدِّمُها للناسِ في سيرتَينِ من ذاته وشعره. أو هو، بتعبيرٍ آخرَ، الكيميائيُّ الذي يُصفِّفُ الدهشاتِ في قواريرِ السطورِ والأفعال، ثم يمزجُ بعضَها ببعضٍ على وفقِ مقاديرَ من بلاغةِ تعبيرٍ وتصويرٍ وأداء، حتى يُنتِجَ منه دهشةً تلوَ أختِها، تتزاحمُ في ما بينها كلما تصرَّفَ أو تكلَّمَ أو كتب، أو دعا وزيراً سابقاً إلى الخَطابةِ في حفل توقيع ديوانٍ له جديد.
وأنا بالحقيقة لم أكنْ أعرفُه من قبلُ إلّا بالسماع. فلقد كنتُ منصرفاً إلى عملي القضائي انصرافاً شبه كامل، تاركاً لنفسي خلال ذلك فُسُحاتٍ متباعدةً ألجأُ فيها إلى مراجعةِ أشياء الجمال الفنيّ، لأُروِّحَ بها عن وقتي من جفافِ النصّ القانوني وتفسيراتِه وتطبيقاته؛ حتى أسكنَتْني هذه الفسحات «في بيتْ قاعِدْ عالدَّرَجْ بَرَّا» تهبُّ عليه نسائمُ الإبداعِ من كلِّ جانب، وتبسطُ عليه الشمسُ طَوالَ النهار ظلالَ ضوئِها. كان جرمانوس جرمانوس واحداً من الذين استضَفْتُ قصائدَهم على سُفرةِ ذاك الدّرج، فقرأتُ الكثيرَ منها، وتساءلتُ لدى كلِّ مرّةٍ كيف لشاعرٍ يكتبُ الدهشةَ أن ينقلَها إلى القارئِ رخيَّةً بلا عناء. فلمّا آلت إليَّ حقيبةُ الثقافة في الحكومة السابقة، التقينا، فإذا به، كما قلتُ في مطلعِ الخطاب، رجلٌ مسكونٌ بالغرابةِ المبدِعَة، يعيشُها ويقولُها عفواً «من طقطق إلى السلامُ عليكم». ذلك أنّه متحفِّزُ الشاعرية، يفاجِئُكَ على الدوام في خطابه اليومي كما في قصائده، بما لا تتوقَّعُ من مقارباتٍ يُعيدُ بها تشكيلَ اللغة الشعرية، مطوّراً العلاقات بين الألفاظ والمعاني، وباسطاً آفاقاً أوسعَ من مدى القراءةِ الباهتة التي تسَيطرُ على أدبٍ كثيرٍ وشعرٍ وفير. ثم تكرَّرت بيننا اللقاءاتُ التي تعدَّدت فيها مُطارَحات الشعر والخيال، فازداد إعجابي بلغته المتفجّرة، حتى لقد سمّيتُه أمير الشعر المحكي. وكان أن دعاني إلى الكلام في حفلِ توقيعِ ديوانه السابق «عْيوني وْلادْ وْدَمعتي زعتَرْ». وها هو اليومَ مرّة ثانية يكرّر الأمرَ نفسَه معي، فأستجيبُ وآتي لأقول:
إنّ هذا الديوان الجديد «في بيتْ قاعِدْ عالدَّرَجْ بَرَّا»، قد يبدو للوهلة الأولى مجموعةً من الأحزان الشخصية التي كابدها جرمانوس إثرَ فقدان شقيقه في المغترَب، أمّا أنا فأرى في أبعاده العميقة، عنواناً للحزن العامِّ الذي يكابده لبنان بسبب خسارةِ بيوتِ أبنائه التي أصبحت هي الأخرى مقيمةً خارجاً على أدراج المهاجرِ القريبةِ والبعيدة، في صورةٍ تشبه تماماً عنوانَ هذا الديوان. ذلك أنّ البيوت عندنا تعني المنازل كما تعني العائلات، فلا فرقَ إذاً، عند انسكاب الحزن على الشعر، بين أن يقعَ الفَقْدُ على الحجر أو على البشر. ولهذا فالديوان برأيي خلاصةُ مَرَاثٍ عامة، وإن ارتدَت طابعاً خاصّاً، تسيلُ بأحزانِها لغةٌ من ضبابٍ شفيف، لصيقةٌ بتراب القريةِ الجالسةِ «برّا»، على درج الريف اللبناني، تلك التي سافرت في حقائب المغتربين حيث وضّبوها حكاياتٍ وذكريات.
لكنَّ هذا الحزنَ اللبنانيَّ الذي أشير إليه، ليس عندي حزنَ المقيم على المغترب، بل هو قبلاً وأوّلاً حزنُ المقيم على المقيم، والمغتربِ على أخيه الصامدِ ههنا تحت وطأة الظروفِ القاتلة. والحقيقة أنّ أَوَّلَ ما دفعني إلى هذه القراءةِ في تضاعيف الديوان الحزين، شعوري بذلك الوجعِ الوطنيِّ الكثيف الذي تلتفُّ به قرانا المدمَّرةُ في الجنوب، وقد عاد أهلها إلى خرائبِها مُصرّين على البقاءِ فيها ولو «برَّا» فوق أنقاضِ الأبنيةِ والذكريات، بعدما خسروا كلَّ شيء إلّا الكرامةَ والإصرارَ على احتضان التراب بالعزائم والأرواح حتى استعادته كاملاً، نقيّاً طاهراً سيداً حرّاً مستقلّاً.
هكذا، بين البيوت التي تدمّرت من داخلٍ وخارج، وبيتِ جرمانوس الذي يسكنُه حُزْنُ الرحيل، تتجلّى أهميةُ القيم بما هي هويةٌ وعنوانُ انتماء. تلك نعمة القرية اللبنانية الهادئة، الرابضةِ فوقُ، على كتف الجبل الذي نحن في سفحه، والتي أَشْرَبَتْ جرمانوس بمِلْعَقَةِ النسيم لغتَه المضيئة الزاخرة بكلِّ أصناف الدهشات البليغة والخيالِ الخلّاق المتوثّب. ولعلَّه في سرِّه والعلانية، لا ينفكُّ يؤكِّدُ أنّه ابنُ ذلك الريف، وأنّ ما به من موهبةٍ فمن طبيعة ذلك الريف.
وبعد أيها الأصدقاء،
في غمرة الفصح الذي لا يزالُ رجاؤه مقيماً فينا، أودُّ أن أقول لجرمانوس: مثلما أخرج الحزن كتابك الحاديَ عشر إلى فرح الحياة، هكذا بيوتُنا وعائلاتُنا ستقوم من ركام الوقتِ الصديد إلى قيامةِ انتصارٍ على كلِّ أشكال الموت التي يضعُها في دروب المستقبل عدوُّنا وعدوُّ الإنسانية. يكفينا لننتصر أن نتكلم لغةً واحدة كلغتِك، تعرفُ كيف تجمعُ أشتات الألفاظ والمعاني إلى رؤيا إنسانية ناطقةٍ بالحق ونابضةٍ بالأنفة والعزّة والجمال. عشت يا جرمانوس والسلام.

theme::common.loader_icon