
الحروب، ومعارك الحروب كانت منذ كان على الأرض إنسان، ومنذ راحت غريزة الحسد والأنانية والطمع تتحكّم بالعلاقة بين قابيل وهابيل.
كان ولا يزال التصارع حول الاستئثار بالسلطة هو السبب المرجّح لفجائع الشعوب في نشوب الحروب.
وقديماً، وفق نظرية: إنّ غمد السيف لا يَتّسع لسَيفَين والعرش لا يتّسع لملكَين: إخترع «الهندوس» لعبة الشطرنج للتحارب بقِطَع العاج بديلاً من الحرب على الملك بالسيف.
وحتى تظلّ الشعوب تجارةً للملوك، ما انعدمت الشهامة عند «شارل» ملك إسبانيا بعد حروب قاتلة بينه وبين «فرنسيس» ملك فرنسا، بأن دعا شارل خصمه فرنسيس إلى المبارزة رجلاً مقابل رجل حتى لا تستمر المجازفة بسفك دماء رعاياهما الأبرياء (1).
ونتيجة لما أسفرت عنه الحروب المتفاقمة من الضحايا البريئة بالملايين راحت المرجعيات الدولية تفكر بحلول سياسية للصراع العسكري، فكان بعد الحرب العالمية الأولى مؤتمر الصلح في باريس «ومعاهدة فرساي»، وكانت بعد الحرب العالمية الثانية منظمة الأمم المتحدة، بهدف الحفاظ على السلم والأمن الدوليَّين وحماية حقوق الإنسان من الهَوَس العسكري وجنون الاضطهاد.
ومع ذلك، استمرّت الأنظمة الديكتاتورية والفاشية تمارس الحلول السياسية بلغة العنف واعتماد أسلوب الفتن والقمع والإغتيالات سبيلاً إلى النصر، فيما اعتمدت الأنظمة الديموقراطية تسوية الصراعات المسلّحة بأشكال أخرى من القتال، فكانت المعارك الانتخابية بديلاً من المعارك الدموية.
من هنا، أُطلق على الانتخابات تسمية المعركة الانتخابية كبديل ديمقراطي حضاري من الحركة العسكرية المخضبة بسفك الدم.
وبتعبير آخر: فإنّ صندوق الاقتراع في النظام الديمقراطي هو الحل الحضاري النقيض لصندوق الخرطوش الديكتاتوري.
في لبنان، مع بدايات الانتخابات النيابية، كان هناك تنازع بين صندوقَين: حين ترشّح قبلان فرنجية للانتخابات النيابية في الشمال في 10 حزيران 1929 ضدّ الشيخ «وديع طربيه» فزَحَف الزغرتاويّون إلى طرابلس لاقتحام السرايا، وحرصاً على عدم إراقة الدماء، أعلن وديع طربيه انسحابه من المعركة (2).
في عهد الرئيس بشارة الخوري الإنتخابي الإستقلالي، كانت انتخابات 25 أيار 1947 مضرب مثل بما رافقها من شكوك وتزوير وفساد (3)، حتى قيل: إنّ عدد أوراق المقترعين في الصناديق كانت أكثر بكثير من عدد الناخبين المدوّنين في لوائح الشطب.
ومنذ ذلك الحين، لم تكن الانتخابات النيابية والبلدية في لبنان، ديمقراطية ونزيهة، سواء بما تحتويه الصناديق من أرانب، أو بما تبتدعه قوانين الانتخابات من أثواب مطرّزة على قياس ملوك الطوائف وملوك الحروب.
ولا يزال ملوك القرون الوسطى في القرن الواحد والعشرين يحتكرون إرادة الشعب، لأنّ أسماءهم مستوحاة من أسماء الله الحسنى، وعلى الشعب الرضوخ لأنّ الروح القدس يتمثل فيهم.
هذه المرحلة الانتخابية البلدية الأولى، على رغم ممّا شابها من خلل إداري وقانوني، فلم يظهر فيها تدخّل مباشر من قِبل طاقم الحُكم، وقد وصفها الرئيس جوزاف عون بأنّها خطوة نحو النهوض والتعافي.
على أنّ النهوض المتعافي يُحتِّم الفصل بين صندوقَين: فمَن يُمارس السياسة الانتخابية مع صندوق الإقتراع يكون كمَن يُجسّد الروح الديمقراطية والرحمة الإنسانية، ومَن يمارس السياسة مع صندوق الخرطوش يكون كمَن يُطلق رصاصة الرحمة على نفسه.
1 - قصة الحضارة، ول ديورانت: ج 4 - فصل 22 - ص: 42.
2 - بشارة الخوري فارس الموارنة والعرب: وليد عوض أخزة، الأول - ص: 162.
3 - النيابة في لبنان: فؤاد الخوري - ص: 203.








