منذ أن تصاعدت فصول الحرب في 17 أيلول الجاري بعملية تفجير شبكة «البيجر» بدأ مسلسل التعاطي مع أي اتفاق لوقف إطلاق النار على الجبهة الجنوبية مستنسخاً على مدى عام إلّا 10 أيام عن التجارب «الغزاوية» في شكلها ومضمونها، بما فيها العقبات التي حالت دون تنفيذ أي منها أياً كانت الجهة التي سعت إليها. ولذلك، تعزّزت المخاوف مع غارة الضاحية أمس أياً كانت نتائجها الفظيعة من أنّ الأزمة دخلت نفقاً يقودناً «على طريق غزة» وخصوصاً أنّ إسرائيل ضمنت تأييداً دولياً لها. وهذه هي المؤشرات.
أحيَت الورشة الديبلوماسية التي شهدتها أروقة الأمم المتحدة على أعلى المستويات الدولية منذ أربعة أيام، سعياً إلى ترتيب وقف لإطلاق النار يؤدي إلى هدنة موقتة في جنوب لبنان، تفسح المجال للبحث في حل سياسي، كل السيناريوهات السابقة التي عاشها قطاع غزة منذ الأيام الأولى للحرب التي أطلقتها عملية «طوفان الأقصى» التي أطلقتها حركة «حماس» في 7 تشرين الأول الماضي، و»السيوف الحديدية» التي ردّت بها إسرائيل في ساعات قليلة أعقبت التوغّل الفلسطيني في غلاف القطاع، قبل أن يحلّ ظلام «يوم الغفران» عشية إطلاق عملية «الإلهاء والإسناد» للمقاومة الفلسطينية التي شنّها «حزب الله» صبيحة اليوم التالي.
وعليه، تُجمع مصادر ديبلوماسية وسياسية على قراءتها لهذه التطوّرات بهذا المنطق المتكامل، مع تلك المساعي التي بُذلت على أكثر من مستوى لخفض التصعيد في القطاع وعلى الساحات التي واكبت التطوّرات العسكرية في تلك اللحظات، ذلك أنّه لم يكن صعباً إجراء هذا الربط المتين بما تضمّنه «النداء المشترك» الذي أصدرته الولايات المتّحدة والاتحاد الأوروبي وعدد من الدول الغربية والعربية والخليجية الأربعاء الماضي، بهدف «إرساء وقف موقت لإطلاق النار» لمدة 21 يوماً في لبنان، في محاولة لوأد النزاع الذي يمكن أن يقود المنطقة إلى حرب واسعة النطاق.
وإن توغّلت هذه المصادر في تقييمها للنداء في شكله ومضمونه، والمستوى الرفيع للذين وقّعوه، رأت أنّ من غير المسبوق تبنّي عدد من الرؤساء والملوك والأمراء والقادة الدوليِّين مثل هذا النداء، يتقدّمهم الرئيسان الأميركي جو بايدن والفرنسي إيمانويل ماكرون، ومعهما كتلة دولية تجمع أكثر من 56 دولة ناطقة بكل اللغات المعترف بها في الأمم المتحدة من مختلف القارات، من أجل ما سُمّي وقفاً موقتاً لإطلاق النار «لمنح الديبلوماسية فرصة للنجاح وتجنّب مزيد من التصعيد عبر الحدود».
فهم كانوا مجتمعين في لحظة لا تتكرّر إلّا مرّة واحدة سنوياً ودورياً في الثلث الأخير من أيلول في دورة الجمعية الـ79، وهو ما شكّل الدينامية الاستثنائية التي تمثّلت بحضورهم الشخصي في أروقة المنظمة الدولية منذ ظهر يوم الثلثاء الماضي، قبيل ساعات قليلة على إلقاء بايدن كلمته على منبرها.
وعلى هذه الخلفيات، أُطلقت النصائح من كل الجهات، ولا سيما منها الأميركية والفرنسية، لحضور رئيس الحكومة نجيب ميقاتي إلى نيويورك، لأنّه في مثل هذه الظروف يمكن تسهيل المشاورات الممكنة بالطريقة الأشمل والأسرع، وسيكون إلى جانب المرجعيات الدولية التي كانت تبحث في مشروع نداء بنواته الفرنسية قبل وصول ماكرون. وتأسيساً على هذه المعطيات، كانت الاتصالات قد اختمرت لحظة إطلاق النداء الذي تولاه بايدن شخصياً، بعدما خصّص له جانباً من خطابه الأممي.
وعلى هذه المعطيات بنت المصادر الديبلوماسية قراءتها لأهمية النداء. فتلاحقت البيانات التفسيرية لمسؤولي البيت الأبيض والأمن القومي على ألسنة الناطقين باسمها، معطوفة على بيانات أطلقها ماكرون شخصياً، وشجّع عليها الخطاب القاسي لأمير قطر الذي لحق بالإدانة السعودية للعمليات العسكرية في غزة ولبنان، والتأكيد السعودي بطريقة واضحة بأنّ لا تطبيع ولا مفاوضات مع الدولة العبرية قبل التوصّل إلى إعلان الدولة الفلسطينية بما فيها عاصمتها القدس الشرقية، في موقف أحيا مبادرة الملك عبدالله التي أطلقها في القمة العربية من بيروت عام 2002.
في هذه الأجواء، صُدمت المراجع الأميركية والفرنسية قبل نظيراتها التي شاركت في إطلاق النداء المشترك، بالرفض الإسرائيلي لمضمونه، والذي تسبّبت به الحملات التي شنّها الوزراء المتشدّدون في الحكومة وبعض أعضاء الكنيست الذين اعتبروا أنّ موافقة نتنياهو على ما هو مطروح يشكّل مَسّاً بالأمن القومي لإسرائيل، عدا عن توصيف مراحلها الممتدة لثلاثة أسابيع بـ»التسويفية» التي ستسمح لـ»حزب الله» بتجميع قواه مجدّداً لاستكمال حربه على إسرائيل. وهو أمر جاء متطابقاً مع مصير الاتفاقيات التي عُقدت لوقف الحرب في غزة، بالمواقف عينها والعبارات إياها. وما زاد من نسبة القلق على مصير النداء، أنّ ردّات الفعل الإسرائيلية الفورية جاءت عقب تسريبات أميركية مصدرها البيت الأبيض والأمن القومي والخارجية ومعها المخابرات الأميركية، التي أكّدت أنّ فقرات «النداء ـ المبادرة» الدولية الأخير صيغت بعد مشاورات معمّقة مع الجانب الإسرائيلي، بحيث أنّها ضمنت موافقته المسبقة، بعدما تزامنت مع تعليمات أُعطيت للجيش للتخفيف من ضرباته في لبنان.
وكان ذلك قبل أن تتلقّى بفارق ساعات قليلة الرفض الذي اتُخذ في الساعات الأولى، إحياءً للتصعيد العسكري غير المرغوب به، وعندما تمّ الربط المستحيل بين الموافقة واعتراف لبنان بالدولة العبرية، بعد الفصل عن أحداث غزة، ولذلك أعيد العمل بالتعليمات العسكرية المتشدّدة، والتي حصدت المجازر في قرى جنوبية وبقاعية عدة، أحيت مظاهر تلك التي ارتُكبت في «المناطق الآمنة» في قطاع غزة كما في خان يونس وأحياء من الضفة الغربية وبعض المخيمات، عندما برّرتها إسرائيل باستهداف قادة من «حماس»، وقد ظهر زيفها شنيعاً في «مجزرة الطحين» وفي «المواصي» ومناطق انتهى بعضها بتحرير بعض الأسرى ومقتل آخرين.
وبناءً على ما تقدّم، وفي انتظار النعي الرسمي للنداء ـ المبادرة، عبّرت المراجع العسكرية والاستخبارية عن قلقها من تكرار حلقات «المسلسل الغزاوي» بدءاً ممّا جرى أمس في الضاحية الجنوبية، بما يمكن أن يحصده من مجازر وخراب ودمار، في بلد منهك، قادته بعض القوى إلى سلوك الطريق إلى قطاع غزة بما فيها من محطات وأنفاق سوداء معتمة، وضعت البلد كله على شفير حرب لا يستطيع أي مرجع محلي أو إقليمي أو دولي تقدير طول الطريق من الضاحية إلى غزة ولا الأيام أو الأسابيع المقدّرة لسلوكها بما فيها من بحور الدموع والدماء.