تعددت المبادرات والجهود والمساعي حول الملف الرئاسي والنتيجة واحدة؛ هي الفشل في تحفيز معطّلي الحياة في لبنان على تغليب مصلحة بلدهم على حزبياتهم وحساباتهم والتوافق على انتخاب رئيس الجمهورية. عدّاد الفراغ الرئاسي، سجّل على مدى السنتين الماضيتين سلسلة طويلة من المبادرات والمحاولات الفاشلة، ومع ذلك تتكرّر من المصادر ذاتها، وبالمحتوى ذاته، الذي صار في نظر اللبنانيين تقليداً موسمياً تُشحن فيه الأجواء بعجقة سفراء واستطلاعات ومطوّلات ومرافعات عن الرئاسة وضرورتها، تفتقر جميعها إلى قوة الدفع الحقيقية التي تمكنها من التفوق على «القبّة التعطيلية» التي يستقوي بها القابضون على رئاسة الجمهورية، لاعتراض كلّ جهد يرمي إلى انتخاب رئيس للجمهورية وإسقاطه!
أما والحالة هذه، فسواء اجتمع سفراء اللجنة الخماسيّة اليوم السبت في قصر الصنوبر في ضيافة السفير الفرنسي هيرفيه ماغرو، أو في دارة السفير السعودي وليد البخاري، أو لم يجتمعوا أصلاً، فذلك لا يغيّر في قناعة اللبنانيّين بأنّ «الخماسية» في حراكها المتجدّد «ما رح تشيل الزير من البير»، فلقد سبق لهم أن شاهدوا هذا الفيلم الحراكي الطويل أكثر من مرّة، وحفظوا فصوله عن ظهر قلب؛ بدايته حماسة أقصاها استطلاعٌ، وأمّا نهايته فكَسرٌ لخاطر الوسطاء وعودٌ إلى المربّع الأوّل لاستئناف الحراك في وقت لاحق.
الفصل بين الجبهات
وإذا كان توافق أطراف الإنقسام الرئاسي، هو الهدف الصعب الذي يرمي اليه حراك الخماسية بوصفه الخيار الإلزامي والوحيد بيد الأطراف السياسية الذي يسهل عليهم انتخاب رئيس للجمهورية، فإنّ الرأي الغالب في الاوساط السياسية، يرى استحالة في بلوغ هذا الهدف، مع اطراف لا تُظهر حتى الآن رغبة في الحوار والاتفاق على حلول وسط، فلقد فشلت مرّات عديدة في تحفيز الحوار بين رافضيه، فضلاً عن انّ المرونة التي تطلبها غير قابلة للصرف في بنك التصلّب السياسي الذي تراكم فيه رصيد هائل من الشروط العالية السقف، ومن المواصفات المتناقضة للرئيس الجديد.
الّا انّ مصادر «الخماسية» اكّدت لـ»الجمهورية»، أنّ اللجنة مدركة لحجم التعقيدات بين الأطراف في لبنان، لكنها تعتبر أنّ من الخطأ الحكم المسبق على مسعاها قبل أنّ ينطلق، فالطريق ليس مقفلاً في وجهها، بل هو مفتوح للتقدّم أكثر الى الأمام، وخصوصاً انّ حراكها الآني استثنائي في ظرف استثنائي، وحافزها إجماع دولي اكيد على التعجيل في انتخاب رئيس للبنان، مدفوع بقراءة مفصّلة للظروف المتقلّبة في المنطقة والتطورات المتسارعة فيها، وواقع لبنان ربطاً بها، توجب هذا التعجيل. واللجنة الخماسية تعمل لتهيئة الأجواء لذلك..
على أنّ الاولوية التي تتصدّر حراك «الخماسية»، كما تقول المصادر، ليس المرونة المطلوبة من مختلف الاطراف، فحسب، بل تأكيد الفصل بين الجبهات، وعدم ربط الملف الرئاسي بملف الحرب سواء في غزة، او في المواجهات الدائرة على جبهة الجنوب. وتوازياً تأكيد الضرورة والحاجة الملحّة إلى اتخاذ الواقع الحربي دافعاً قوياً للأطراف في لبنان للتعجيل في انتخاب رئيس للجمهورية.، ولاسيما أنّ انتخاب الرئيس لا يشكّل ضرورة وأهمية آنية فحسب، بل يشكّل استباقاً مطلوباً بقوة لما ستشهده المنطقة من تحدّيات والتزامات توجب ان يكون في لبنان رئيس يتحدث باسمه».
موسى عند بري
وفي سياق متصل، زار السفير المصري في لبنان علاء موسى رئيس مجلس النواب نبيه بري، وقال إنّ البحث تركز على الملف الرئاسي، والمبادرة الاخيرة للرئيس بري وكيفيّة كسر الجمود في الملف الرّئاسي. واشار الى انّ «الرئيس بري أكّد لي إصراره وتمسّكه بفصل مسار ما يحدث في غزة عن المسار الرّئاسي، وهذا أمر في غاية الأهميّة، لأنّه إذا ما استطعنا فعلًا فعل هذا فسنتمكّن من إحداث حلحلة في الملف الرّئاسي».
وقال: «تحدّثنا عن جهود «اللجنة الخماسية» واجتماعاتنا في الفترة المقبلة وما نرجو إليه، وأكّدت للرئيس برّي أنّنا سنبقى على تواصل بما يخصّ تحرّكات «الخماسيّة». مشدّداً على أنّ الحوار ما بين اللّجنة والأطراف اللّبنانيّين هو الأمر المهمّ، وهو الّذي سيؤدّي إلى انفراج في هذا الملف».
وعن الاجتماعات المقبلة للّجنة الخماسيّة، كشف موسى «أنّنا سنلتقي في «الخماسيّة» بعدما كان الاهتمام الأكبر في الفترة السابقة منصبًّا على تهدئة الجبهة في الجنوب. الآن عدنا مرّة أخرى للتّركيز على الملف الرئاسي، وسنلتقي لأنّ السّفراء لم يكونوا متواجدين في لبنان، وهم عادوا إلى لبنان وسنجتمع من أجل التّداول في التقييمات للأوضاع، وما حدث في الفترة السّابقة وما يمكن اتخاذه في المستقبل».
حرب نفسية
على الخط الجنوبي، الواضح أنّ المواجهات تنحى في اتجاه تصاعدي ملحوظ على امتداد خط الحدود من الناقورة الى جبل الشيخ، حيث رفع الجيش الاسرائيلي من وتيرة اعتداءاته على المناطق اللبنانية، فيما كثف «حزب الله» عملياته ضدّ المواقع والقواعد العسكرية للجيش الاسرائيلي، واستهدافه للمستوطنات الاسرائيلية رداً على استهداف المدنيين اللبنانيين.
في هذه الاجواء، يتعرّض اللبنانيون لأبشع حرب نفسية، تقودها جحافل المنجمين والمحليين وبعض الغرف السوداء التي تروّج للتصعيد وضعف محاولات إطفائه، وتنسج سيناريوهات كارثية توحي وكأنّ الوضع معلّق على شعرة، والحرب واقعة لا محالة، وتخوّف من أثمان باهظة سيدفعها لبنان. وبعض أصوات الشؤم من هؤلاء ذهبوا إلى فجور اكبر في نعيقهم، وتحديد مواعيد لبدء الحرب أواخر ايلول، ويستندون بذلك إلى ما يكشفه الإعلام الاسرائيلي من خطط وسيناريوهات حربية أعدّها الجيش الاسرائيلي لعمل عسكري واسع في لبنان.
مخاوف ... لكن لا حرب
المستوى الرسمي يقارب التهديدات والعدوانيّة الاسرائيليّة المتزايدة ضدّ القرى والبلدات اللبنانية بحذر شديد «حيث لا يأمن من نوايا إسرائيل وعدوانيتها المجنونة التي لا حدود لها» على حدّ تعبير مسؤول كبير.
وفي موازاة ذلك، ورداً على استفسارات «الجمهورية»، كشف مصدر ديبلوماسي مسؤول «أنّ القنوات الديبلوماسية مفتوحة مع أكثر من مصدر خارجي، وثمة مخاوف غربية كبرى على جبهة لبنان، وكذلك من أنّ ضعف احتمالات التوصل الى صفقة تبادل، قد يقود العمليات الحربية الاسرائيلية في غزة والضفة الغربية إلى منعطف خطير يوسّع دائرة الحرب».
إلّا أنّ المصدر عينه، وعلى الرغم هذه المخاوف الغربية، لا يرجح احتمالات توسيع الحرب، ويردّ ذلك الى عاملين اساسيين يقلّلان من فرص الحرب، يتجلّى الاول في أنّ مستوى التحذيرات لدى مستويات عسكرية وسياسية في اسرائيل من الحرب على لبنان أعلى من الدعوات المقابلة إلى شنّ الحرب، ناهيك عمّا يُعلن في اسرائيل عن وضع منهك للجيش الاسرائيلي جراء مأزق الحرب في غزة، الذي زاد تفاقماً مع تمدّده إلى الضفة الغربية، اضافة الى أنّ التهديدات الاسرائيلية ورغم وتيرتها المتصاعدة، ما زالت تحمل في طياتها نافذة نحو الحل السياسي».
واما العامل الثاني، فيتجلّى في الكابح الأميركي للحرب الواسعة وتمدّدها إلى جبهة جنوب لبنان. وكشف المصدر الديبلوماسي انّ خط التواصل لم ينقطع بين مستويات لبنانية مختلفة وبين الوسيط الاميركي آموس هوكشتاين. وذكّر بأنّ «الاميركيين مارسوا ضغوطاً كبرى لإبقاء الوضع محصوراً في نطاق «تصعيد مضبوط» حتى تبلوُر الحل السياسي بعد انتهاء حرب غزة». وكشف انّ الإشارات الأميركية تتوالى وتؤكّد عزم واشنطن على تخفيض سقف الاحتمالات الحربية الواسعة، ولعلّ أبلغ اشارة، ورداً على لسان المسؤول الاميركي الكبير، الذي حذّر من عواقب الحرب الاسرائيلية على لبنان، التي اذا ما اندلعت لن تبقى بيوت يعودون اليها، هي رسالة إلى كل الاطراف، وواشنطن أبلغت ذلك بوضوح الى المستويات السياسية والعسكرية في اسرائيل.
يُشار في هذا السياق إلى أنّ «القناة 12» الإسرائيلية قد أعلنت «أنّ هوكشتاين وصل إلى إسرائيل برسالة أميركية إلى تل ابيب بالامتناع عن عمل عسكري واسع بلبنان». وأضافت: «إنّ الجميع يدركون في الولايات المتحدة وإسرائيل أنّ حرباً مع «حزب الله» يمكن أن تؤدي إلى حرب متعددة الساحات». وأشارت إلى أنّ «هوكشتاين سيبذل جهداً إضافياً للوصول إلى تسوية في الشمال، والمشكلة هي أنّ تسوية كهذه مرتبطة أيضاً بوقف النار في غزة».
وفيما قاربت بعض التحليلات الاندفاعة الاميركية السريعة في اتجاه اسرائيل عبر هوكشتاين، بكونها تعبّر عن شعور اميركي بجدّية التوجّه الاسرائيلي إلى حرب على لبنان، بما يشكّل رسالة غير مباشرة في اتجاه لبنان لكبح جماح «حزب الله» لتخفيض وتيرة استهدافاته للجيش الاسرائيلي والمستوطنات، الّا انّ تحليلات موازية أرجعت هذه الاندفاعة إلى تقديرات اميركية بناءً على تقارير اعدّها البنتاغون، تفيد بأنّ الحرب على لبنان ليست بالسهولة التي تفترضها مستويات سياسية وعسكرية اسرائيلية، بل انّ نتائجها ستكون مدمّرة، وتلحق اضراراً كبرى بمصلحة اسرائيل، فضلاً عن انّها تشكّل تهديداً مباشراً لمصالح اميركا في المنطقة، حيث لا يستبعد ان تتمدّد هذه الحرب الى ساحات اخرى في المنطقة، ما يعني سقوط المنطقة في واقع خارج السيطرة.
لا ثقة
إلى ذلك، وفي موازاة التأكيدات الأميركية المتجددة على ضرورة التعجيل في بلوغ صفقة تبادل توقف الحرب في غزة، وعلى اولوية الحل السياسي على جبهة لبنان، فإنّ مرجعاً سياسياً يؤكّد لـ»الجمهورية»، أنّه لا يثق بوجود ضغوط اميركية آنية او لاحقة على اسرائيل لوقف حربها. «فلو شاءت واشنطن ان توقف الحرب من البداية لأوقفتها رغم أنف نتنياهو ووزرائه المتطرّفين. ومن هنا لا ارى أفقاً لانفراج قريب في غزة. كما لا أفق لحل سياسي لجبهة الجنوب ولا بحث في أي صيغ او افكار لهذا الحل، طالما أنّ العدوان مستمر على غزة».