في ظلّ الأزمات المتتالية التي اجتاحت لبنان، يبرز الدكتور طوني المر كمثال للأطباء الذين اختاروا البقاء في وطنهم ومواصلة العمل على الرغم من التحدّيات. كان شغوفاً بالطب منذ صغره، وتمسّك بطموحه فتخرّج من الجامعة اليسوعية بشهادة في الطب العام ومن الجامعة اللبنانية بشهادة المحاماة، ثم تخصّص في فرنسا بالطب الداخلي وعِلم المناعة السريرية وعلاج الآلام.
عاد الدكتور المرّ إلى لبنان، وأسّس مركزه الخاص وعمل في مستشفيات وعيادات متعدّدة، وشغل منصب رئيس الجمعية اللبنانية للطب الداخلي، ونظّم مؤتمرات ناجحة وساهم في رفع مستوى الجمعية دولياً ويعمل حالياً منذ سنوات عديدة في مستشفى Hôtel Dieu de France في قسم الامراض الداخلية ويمارس مهنة التعليم في كلية الطب في جامعة القديس يوسف USJ .
يشرح الدكتور المر الفرق بين الطب الداخلي والطب العام، بأنّ الطب الداخلي تخصّص متقدّم بعد دراسة الطب العام، ويشمل فهماً عميقاً لكافة تخصصات الجسم البشري، مشدّداً على أنّ طبيب الطب الداخلي يشبه "المايسترو" في إدارة ملف المريض بشكل شامل.
أمّا بالنسبة إلى تولّيه منصب رئيس الجمعية اللبنانية للطب الداخلي، فكان الهدف معالجة تشتّت الجمعية بسبب الأزمات الاقتصادية وجائحة كورونا، ممّا دفعه إلى العمل على توحيد الأطباء وإعادة تماسك الجمعية، ونجح في ذلك.
تحدّي الصمود في مواجهة الهجرة
في ظل الأزمة الاقتصادية التي تسبّبت في هجرة عدد كبير من الأطباء بحثاً عن فرص أفضل، كان الدكتور المر من بين الأطباء الذين اختاروا البقاء، فأكّد: "واجهنا خيارَين: إمّا الصمود والمواجهة في سبيل بلدنا خلال هذه الفترة الحرجة، أو الهجرة إلى الخارج بحثاً عن ظروف معيشية أفضل". وأشار إلى أنّ القطاع الطبي في لبنان نجح في الحفاظ على مستوى طبي محترم، على الرغم من الأزمات التي واجهها لبنان، ممّا انعكس على المستشفيات والصيدليات، وما أدّى إلى اعتماد الأطباء على خبراتهم لتعويض نقص الأدوية ومنع تعريض المرضى للخطر.
مواجهة كورونا
أشار الدكتور المرّ إلى أنّ تنوّع اختصاصاته كان عاملاً أساسياً في تميّزه خلال جائحة كورونا، مضيفاً: "كانت قدرتي على معالجة مرضى كورونا والمرضى الآخرين عاملاً رئيساً في تقديم الرعاية الصحية المناسبة".
وبفضل تخصّصه في إدارة المستشفيات، ابتكر أساليب جديدة لإدارة الأزمات، وأسّس برنامجاً صحياً عبر الإنترنت بالتعاون مع فريق عمل مميّز، مكّنهم من تقديم الرعاية الصحية لحوالى 4000 مصاب بفيروس كورونا، بالتعاون مع الصليب الأحمر اللبناني، الدفاع المدني، والجمعيات الخيرية لتأمين أجهزة الأوكسجين والأدوية وغيرها من المستلزمات الضرورية.
وفي ظلّ امتلاء المستشفيات والوضع الاقتصادي، اضطرّ الدكتور المرّ إلى تحويل عياداته وسياراته وحتى منزله إلى وحدات متنقلة للعلاج.
ضرورة تغليب المصلحة العامة
في ظلّ انعدام قيمة الضمان الاجتماعي، يلجأ العديد من المرضى إلى تجنّب زيارة الطبيب بسبب التكاليف المرتفعة، ممّا يؤدّي إلى تفاقم الأزمات الصحية. يشدّد المر على ضرورة تغليب المصلحة العامة على المصلحة الشخصية لدى المسؤولين، لأنّ "مَن جَمَعَ المال والثروات، قد يخسرها في لحظة بسبب المرض أو الموت". وأضاف برسالة إلى المسؤولين: "أنتم لا تُقاسون بقوتكم المالية، بل بالأعمال الخيرية التي تقدّمونها لبلدكم".
وضع المستشفيات في تحسّن تدريجي
وصف الدكتور المر الوضع الحالي للمستشفيات بأنّه أفضل مقارنة بالفترة الماضية، على الرغم من أنّها لا تزال تعاني من بعض المشكلات. سابقاً، عانت المستشفيات من أزمة مالية خانقة ونقص حاد في الكوادر الطبية، بسبب هجرة الممرّضين والممرّضات إلى الدول العربية، فشدّد المر على أهمية دورهم، بل أنّ عملهم أساسي ويحتاج إلى مكافآت مناسبة تقديراً لجهودهم الكبيرة.
لو تسلّم منصب وزير الصحة، أشار الدكتور المر إلى أنّ المشكلة الأساسية لا تكمن في نقص الموارد المالية أو البشرية، بل في سوء الإدارة والفساد المستشري. وأوضح: "لبنان ليس بلداً فقيراً، بل هو بلد غني بالموارد البشرية والطبيعية. لدينا طاقات هائلة يمكنها دفع لبنان إلى الأمام إذا استُغلّت بالشكل الصحيح"، مؤكّداً أنّ أول ما سيقوم به هو "ضبط الهدر، لأنّ الفساد بمثابة الأخطبوط" الذي يلتف حول جميع جوانب الحياة، مضيفاً: "علينا توزيع الموارد البشرية والمادية بشكل عادل لضمان تحقيق التوازن في الخدمات الصحية". وأشار إلى أنّ لبنان يحتاج فقط إلى استعادة ثقة المستثمرين وأبناء الوطن في النظام. لكنّه لا يرى نفسه وحده قادراً على تحقيق التغيير، فالتعاون مع فريق ملتزم بالمصلحة العامة أمر أساسي".
رسالة أخيرة
في رسالة أخيرة، شدّد المر على أهمية الطب الوقائي، لأنّ "الوقاية خير من ألف علاج. لا يجب أن ننتظر حتى نصاب بالمرض لزيارة الطبيب. علينا أن نكون واعين لما نأكله، وكيف نعيش حياتنا الصحية". وحذّر من مخاطر التدخين بجميع أشكاله، خصوصاً لناحية خطر الإصابة بأمراض السرطان في سن مبكرة. ونصح بأهمية إجراء فحوصات طبية دورية حتى لو مرّة واحدة سنوياً، لأنّ ثقافة الطب الوقائي غير شائعة بما فيه الكفاية في لبنان، وعليها أن تصبح جزءاً من ثقافتنا، خصوصاً الأمراض الصامتة القاتلة التي لا يشعر بها المريض إلّا في مراحلها المتقدّمة.