خبيرٌ استراتيجي في الإصلاح الإداري والاقتصاد
في 17 تشرين الأول 2019، شهد لبنان واحدة من أخطر الأزمات الاقتصادية في تاريخه الحديث. هذه الأزمة أدّت إلى انهيار شامل، أثّر بشكل سلبي على كل القطاعات الحيَوية، بما في ذلك القطاع الخاص. كانت التحدّيات التي واجهها موظّفو القطاع الخاص نتيجة مباشرة لأزمة هيكلية عميقة في الاقتصاد اللبناني، الهش حتى قبل تفجّر الأزمة.
أبرز العوامل المؤثرة على موظفي القطاع الخاص كانت التضخّم وانهيار العملة الوطنية. فمع ارتفاع الأسعار بشكل غير مسبوق، بقِيَت الرواتب ثابتة أو تراجعت في قيمتها الحقيقية. هذا الانخفاض الحاد في الأجور أدّى إلى تآكل القوة الشرائية للأسر اللبنانية، وأصبحت الرواتب غير كافية لتغطية الاحتياجات الأساسية مثل الغذاء والتعليم والرعاية الصحية.
استفادت بعض الشركات الخاصة من الأزمة لزيادة أرباحها على الرغم من الانهيار الكبير في الرواتب. في حين أنّ العديد من الشركات حافظت على أسعار منتجاتها أو رفعتها، استمرّت في تحقيق أرباح من خلال التصدير إلى الأسواق الدولية بالدولار الأمريكي. ومع ذلك، لم تُترجم هذه الأرباح إلى تحسين أوضاع العمال، بل استمرّت الشركات في تحقيق مكاسب على حسابهم.
من أبرز مظاهر الأزمة ما يمكن تسمِيَته بـ "متلازمة المطاعم". فعلى الرغم من انهيار الرواتب، تواصل أسعار المطاعم الارتفاع لتنافس تلك في مدن عالمية مثل طوكيو ونيويورك وميلانو. في بعض الحالات، تصل فاتورة زبون واحد إلى راتب نادل شهرياً. ويعكس هذا التفاوت الكبير عدم التوازن بين أجور العمال وأرباح الشركات. وعلى الرغم من استمرار قطاع المطاعم في جني الأرباح، إلّا أنّ العمال يجدون أنفسهم في مواقف مهنية متدهورة وصعبة.
الأزمة الاقتصادية دفعت أيضاً عدداً كبيراً من اللبنانيِّين إلى الهجرة، بحثاً عن فرص عمل أفضل في دول الخليج أو الغرب. هذه الهجرة الجماعية تمثّل هجرة للأدمغة، ممّا يزيد من تعقيد الأزمة ويعوّق أيّ محاولات للتعافي الاقتصادي على المدى الطويل، لأنّ فقدان الكفاءات البشرية يُضعف القدرة الإنتاجية للبلد ويزيد من الضغط على الاقتصاد الوطني.
موظفو القطاع الخاص ليسوا فقط مُعيلين لعائلاتهم، بل يمثلون ركيزة أساسية لتحفيز النشاط الاقتصادي. ويعتمد الاقتصاد على استهلاك الأسر لتحريك الطلب المحلي الذي يغذّي عجلة الإنتاج. مع تراجع الأجور، انخفضت القدرة الشرائية، ممّا أدّى إلى تقلّص الطلب على السلع والخدمات. هذا التراجع في الطلب يؤثر سلباً على الاقتصاد الكلي، ويؤدّي إلى تباطؤ النمو وزيادة معدّلات البطالة، ممّا يفاقم الأزمات المالية ويقلّص الإيرادات الضريبية التي تعتمد عليها الدولة لتقديم الخدمات.
من التداعيات الأوسع للأزمة، تراجع الاستثمار المحلي والأجنبي. فمع تدهور أوضاع العمالة وانخفاض الطلب المحلي، باتت البيئة الاقتصادية غير جذابة للمستثمرين، ممّا يزيد من صعوبة التعافي. وتُضعِف الشركات التي تركّز على تحقيق أرباح قصيرة الأجل، سواء عبر رفع الأسعار محلياً أو التصدير بالدولار، الاقتصاد اللبناني على المدى الطويل.
وكان التوجه نحو الطاقة المتجدّدة أحد الحلول التي تبنّتها الشركات لتقليل التكاليف التشغيلية. مع ذلك، وعلى الرغم من توفيرها الكبير في كلفة الطاقة، فإنّ هذه الوفورات لم تنعكس على رواتب الموظفين. وبدلاً من تحسين ظروف العمال، استفادت الشركات من هذه المدّخرات لتعظيم أرباحها فقط.
في النهاية، يظل القطاع الخاص عنصراً مركزياً لاستقرار الاقتصاد اللبناني. ويُهدّد تجاهل حقوق الموظفين وعدم إعادة توزيع الأرباح بشكل عادل، الاقتصاد على المدى الطويل. فالشركات التي تحقّق أرباحاً الآن على حساب العمال قد تجد نفسها في مواجهة أزمة أكبر في المستقبل، إذ يؤدّي استنزاف العمالة وانخفاض الإنتاجية إلى تدهور الوضع الاقتصادي العام وتعقيد فرص تعافي لبنان.