آنا آخماتوفا طعنت بمواد الظلم حتّى بَرَأت
آنا آخماتوفا طعنت بمواد الظلم حتّى بَرَأت
نسرين بلوط
Monday, 26-Aug-2024 06:39

إنّ العبورَ السلس للشاعر والطاغي على الحدث المنهمر من ينابيع المفردات الوجدانيّة نحو موطن الضوء ييشكّل الركن الأساسيّ للتعبير، ويعتبر بمثابة الوشم النموذجي لفلكلور الطبيعة المبهرج بالألوان، والممنهج للمشاعر الطاغية والمولجة في صميم النص.

وقد عاشت الشاعرة الروسيّة آنا آخماتوفا في رقصٍ دائمٍ مع الشمس، ورفضٍ قاطعٍ للاستبداد، فجمعت بين الرومانسيّة الحالمة والمونولوج الموغل في أغمار الماء الذي استمدّت منه شاعريّتها المفرطة.

 

هزُها الجرح النازف في ظلال البؤس والحرب، فأنشدت قصيدتها: "تضعف الذكريات عن الشمس في القلب، والعشب يصفر، والريح تعبث بندف الثلج الطعينة رويدا رويدا، وفي القنالات الضيّقة يتصقّع الماء، فلا يندفع التيار، وهنا، وفي كل الأوقات، ما من شيئ يحدث، آه ما من شيئ يحدث، في كل الأوقات!، لتلك التي تودّع اليوم غاليها، دعي الألم يتغلغل في القوّة، لأنّنا أقسمنا بالأطفال وأقسمنا بالمقابر، بأن لا أحد يستطيع اجبارنا على الانحناء!".

 

كانت آنا تشعر بالحقد الطاغي على سياسة ستالين، والتجاوزات السياسيّة في عهده، فتثور حانقةً على كلّ التبريرات التي تسمعها، ووجوه الشهداء التي تفتقدها، لا يخضعها الموت ولا يوهنها البطش السائد من حولها، ولم يعنقها الليل البهيم الصاخب باليأس والمنسدل على أرض مدينتها، فلم يتراخ عزمها وراحت تنشد قصاىد الرفض، وترسمها بلون الدماء التي أريقت هباءً.

 

وهي تهصر طيف الحريًة بين ذراعيها وتوجّه لها نداء عبر قصيدتها "ادفنيني أيّتها الريح" فتقول ادفنيني أيّتها الريح ادفنيني أيّتها الريح، فوقي السماء خافتة، والأرض تتنفّس بهدوء، ولم يأتِ أحد من أقاربي، أذكر أنّني كنت حرّة مثلك، لكنّني طمعتُ بأن أحيا أكثر، وها أنتِ الآن، ترين جثّتي الباردة ولا أحد فوقها، ليطوي ذراعي، أغلقي هذا الجرح الأسود، كفن المساء المنتشر هنا وهناك، ها هو الضباب اللازوردي فوق رأسي، يأمرني بقراءة المزامير، حسناً فلأهدأ وأخفّف الأمر علي، وحدي ، سأذهب للنوم الأخير في الأعالي ".

 

إنّ المقارنةَ المحسوسة التي تعيها الكاتبة بين أضلع الروح تطرق غياهب المجد وتهبُّ معها نحو أقاصي المدى لتهبَ روحها للشعر، فهي تتوسّلها أن تفتح أختام الجروح التي تغلغلت في أعماقها، وتطرح معها الفلسفة التفكيكيّة التي تقيم شدّ ترحالها في التوثيق في علاقة النص بالمعنى ، فتجرّد الكلمات من واقعها لتربطها بسلاسل المجاز، وتتكلّم مع الريح وقد شاعت بوادرها لتمنحها الانطلاق الحي والصبابة المنحوتة على أكف الشعر.

 

لقد آمن بودلير بالحرية كمنفذ للطاقة الحيويّة واللهيب الساكن في صدر الشاعر، وكانت جرأته مصدر الهامه، ولم يدك أسوار المجتمع الا بفؤوس التعابير الثاقبة والكلمات المحدقة نحو منابر النور، فاتّهم بالتطرّف والخروج عن آداب المجتمع السليم، ومن حاكمه كان بمثابة من أدان نفسه، إذ عاشت قصائده وازدهرت حتّى يومنا هذا، ولم يؤنس شعره سواء وحدته النقيتة أو تكبّده الضلال الرابض في مستنقعات العتمة، ولكنّه أدرك جزءاً من طوفان الشعر وانصهر باللهيب المتطاير من مراكبه، وكذلك فعلت آنا آخماتوفا التي جزّأت نفسها الى بلور متشظّي يناغي الحلم والوطنَ والحريّة، ولم تسدّد ضربات قلمها نحو الأفول، إذ آمنت أنّ الظلام سينجلي لا محال، والعائد الذي تنتظره ليس له عنوان، ولم يدركها أحد وهي تتهاوى في أسفل القاع الداكن، ولكنّها لملمت أذيال حزنها وانتفضت طاعنةً بشرائع الظلم القاهر، وقد تركت إرثاً شعريّاً كبيراً يتساوى مع قدرتها اللامحدودة في بلورة المعاجم البليغة للغة القصيدة، وتماهت مع الضوء البنفسجي للياقوت المنبعث من أسطوانة الليل الحالك، وقد ندّدت بالاستبداد حتّى نالت براءتها في عالم النقد والتحليل.

theme::common.loader_icon