إذا كانت الحروب توحِّشُ الملوك، والملوك يوحِّشون الشعوب ... نحن نرفض أنْ نكون شعباً متوحِّشاً..
من الأفضل أنْ يكون لبنان بلداً محتلاًّ، بلـداً مقسّماً، بلـداً بلا دولة ولا رئاسات ولا دستور ولا مؤسسات، من أن يصبحَ دولةً إرهابية وشعباً إرهابياً.
لبنان، هو موئِـلُ حرّية الإنسان منذ كان، ومن دونها لا يكون، ومَـنْ لا يؤمن بـهِ بهذا التكوين التاريخي لا يكونُ منـهُ.
ماذا يجري في هذا العالم الكوني الذي كان يتوقُ إلى أن يؤدِّي هذا التطوُّر التكنولوجي الفائق التصوُّر إلى حضارةٍ إنسانيةٍ جديدة تنادي بالقانون الطبيعي وتبشِّر بالمواطن العالمي لتجعل من العقل صانعاً للقوانين في خدمة رفاهية الإنسان وحقِّـهِ وسعادته...؟
إلاَّ أنّ العقل التكنولوجي كان عقلاً جهنمياً متوحِّشاً تجنَّـد في تطوير آلـة الموت لإغراق المجتمعات في بـرَكٍ من الدم.
في هذا الميدان الصاخب من التصارع الأممي بلعبةِ الـدمِ الوطني، ماذا عندنا في لبنان...؟
هل صحيح أنَّ الـدم الوطني الذي يجري في عروقٍ لبنانيةٍ هنا، هو غير الـدم الوطني الذي يجري هناك...؟ وهل صحيح أنّ الـدم الوطني الذي يهدرُ هناك هو غير الدم الوطني الذي يُهـدر هنا...؟
وهل صحيح، أنَّ علينا أن نخضعَ لمختبرٍ وطني لفحص الـدم...؟
وهل يجب أنْ نجعلَ وحـدةَ الدم اللبناني بواسطة الموت المشترك ما لم يتحقق بواسطة الحياة المشتركة...؟
أَليستْ: «دماؤهم كدمائنا ودمُ الكتابيّ كـدمِ المسلمِ حـرام» كما يقول الإمام علي بن إبي طالب؟
لبنان اليوم كلُّـهُ مهـدَّد، بكلِّ شعبـهِ وكلِّ خصائصهِ: التاريخية والحضارية والإنسانية والديمقراطية وحتى الوجودية، فهل يجب أن ننقسم حياله إلى فريقين وأكثر، وكلُّ فريقٍ يهدّدُ الآخر..؟
هناك قيادات لبنانية كبيرة يهدّدها العدّو الإسرائيلي بالإغتيال...
وهناك قيادات سقطت شهيدةً في الميدان...
وهناك رؤساء أحزاب لبنانيون ونوّاب وصحافيون مهدّدون، ومنهم مَـنْ يقبعونَ في بيوتهم... فإذا نحن ضحية عداوة العدّو، وضحية عداوة أنفسنا.
هل المطلوب أن يسير لبنان في هذا الركْبِ «المغولي – النازي» الذي يجتاحُ بعض العالم الذي حولنا، فيكون افتتاح المـدن وإبادة الشعوب بالبارود والكبريت...؟
هل يجب أنْ نتعلّم من عدوِّنا دروساً دمويَّـة نمارسها على أنفسنا...؟ كمثل ما قيل: إنّ معاوية تعلّم سـرّ الإغتيال بالسُـمِّ من اليهود.
هلْ إنَّ ما يجري في قطاع غـزّة بفعل همجيَّة العدو يختلف مثلاً عمَّا يجري في بعض الدول العربية...؟
مثلٌ واحدٌ من السودان حسب إحصاءٍ أخير هناك 152 ألـف قتيل و12 مليون نازح و5300 إمرأة سودانية تعرّضنَ للإغتصاب، ألا ينطبقُ بعضُ هذا على بلدانٍ أخرى، وبعضُ هذا من بعضِ ذاك..؟
لبنان: لا... هو أقدمُ دولةٍ في العالم منذ 5000 سنة، كان إسمهُ لبنان ولا يزالُ إسمهُ لبنان، ولبنان يعني واحةً للحرّيـة وثقافة التعايش والتسامح.
أليسَ من وحـي هذه الواحـة رشّح الرئيس ميشال عـون لبنان في الأمـم المتحدة ليكون مركزاً دائماً للحوار بين مختلفِ الأديان والحضارات؟
إنّ «أكاديمية الإنسان للتلاقي والحوار» في لبنان التي صوَّتت عليها منظمة الأمـم المتحدة من أجلِ نَبْـذِ العنف والتطرّف الدوليين هي التي حملها الرئيس ميشال عـون إلى الأمـم المتحدة، لعلّها كانت «بيضـةَ الديك» لذلك الحكم ولم يكنْ للديك بيضـةٌ أخرى.
مشكلة اللبنانيين في لبنان في أنّهم لا يقرأون تاريخهم بقدر ما باتوا ينجرفون مع التيارات الغرائزية والمذهبية الهائجة، إلى حيث لا مكان لإنسانية الإنسان، ولا يعرفون أنّ لبنان كان ملجأً لكل مضطهدٍ من كلِ مذهبٍ وعقيدةٍ وديـن.
«إنَّ أولياء وعبّاداً مسلمين وجدوا في مغاور لبنان ملجأً لهم بعد اضطهاد».(1)
«وكان النسّاكُ مِنَ النصارى والمتصوِّفـة من المسلمين والزهَّادُ من الدروز يُؤْثِـرون مغاوَر لبنان وكُهوفَـهُ على ملاذ الدنيا... وإنَّ الفِـرَق المسيحية المختلفة والشِيَع الإسلامية المتصارعة والمطرودين من بلادهم لم يجدوا إلاَّ لبنان ملجأً آمناً لهم».(2)
رجـاءً: لا تغتالوا حضارةَ هذا اللبنان، حتى لا تصبحوا لاجئين في كهوفِ الآخرين.
-1 شمس الدين المقدسي: «أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم» ص: 44.
-2 تاريخ لبنان – فيليب حتّـي: ص: 9-28.