









لذلك فإنّ توقعات روبيو الشديدة السواد حول المستقبل القريب لسوريا قد تكون بدّدت المشهد الواعد الذي خرج من السعودية قبل أيام معدودة. يومها ضجّت التسريبات حول التزام الشرع بالتطبيع مع إسرائيل، وبأنّ اجتماعات سرّية عُقدت في أذربيجان بين وفدين سوري وإسرائيلي في حضور وفد تركي في إطار ترتيب المشهد المقبل. أما المصادر الديبلوماسية الأميركية، فلم تتردّد في الكشف عن طلب ترامب ضرورة قيام سلطات دمشق ببسط سيطرتها الكاملة على سوريا، عبر إنهاء أي وجود لأي تنظيم مسلح خارج إطار الدولة السورية، واقتلاع المجموعات الإرهابية التي تتغلغل في سوريا، مستفيدة من الظرف الإنتقالي، مثل 'داعش'. ووفق هذه التسريبات، فإنّ الشرع أكّد قدرة أجهزته على تحقيق هذين الهدفين. لكن كلام روبيو يوحي بالعكس. فهو اعتبر أنّ في ظل التحدّيات التي تواجهها سوريا، قد نكون على بعد أسابيع من حرب أهلية شاملة ذات أبعاد مدمّرة تؤدي فعلياً إلى تقسيم البلاد.
وجاء كلام وزير الخارجية الروسية سيرغي لافروف ليزيد من منسوب الخطر القائم. فهو اعتبر أنّ بلاده تشعر بقلق عميق إزاء وجود نيات لتطهير عرقي حقيقي وعمليات قتل جماعي للناس، تقوم به الجماعات المتشدّدة وعلى أساس جنسيتهم وانتمائهم الديني.
وعلى أرض الواقع، فإنّ التطورات الأمنية تبعث على القلق وسط غموض للمسار المستقبلي للأوضاع. فشكوى لافروف ترافقت مع هجوم نادر تعرّضت له قاعدة حميميم الجوية العسكرية وبقيت تفاصيلها غير واضحة بسبب تكتم السلطات الروسية حولها. لكن الوسائل الإعلامية تحدثت عن سقوط قتلى في صفوف الجيش الروسي إثر محاولة تنظيم إرهابي لاقتحام القاعدة العسكرية الروسية.
وبالتأكيد فإنّ القلق من انفلات الأوضاع داخل سوريا ليس محصوراً بهذه الحادثة فقط. فعدا الجوانب الدموية التي رافقت أحداث الساحل السوري أولاً ومن ثم الأحداث مع الدروز، بدا أنّ هنالك نمواً مضطرداً لتنظيمات تتبنّى السلوك العنفي المتشدّد وسط تسجيل تهريب أسلحة إلى الداخل السوري. وهو واقع يشبه ولو من بعيد الواقع العراقي بعد إسقاط صدام حسين وبسط واشنطن نفوذها عليه. فالمصادر الرسمية السورية كانت قد تحدثت عن مصادرة شحنات أسلحة تتضمن مضادات للدروع وأخرى مزودة مناظير ليلية بالقرب من مدينة البوكمال شرق سوريا، وتحديداً بالقرب من الحدود مع العراق. وهنا يأتي السؤال الأهم عن الجهة التي تقوم بإمرار الأسلحة إلى داخل سوريا والقادرة على امتلاك هذا النوع من الأسلحة.
وخلال الأشهر الماضية شهدت سوريا 'ولادة' عدد من التنظيمات الدينية المتشدّدة، والتي تتوخّى الأساليب العنفية لتحقيق أفكارها. وأبرز ما سُجّل ولادة تنظيم حمل اسم 'سرايا أنصار السنّة'، والذي تبنّى عشرات العمليات التي هدفت إلى القتل والتصفية الجسدية. وفي أحد بياناته أعلن التنظيم في وضوح، أنّ هدفه 'النصيرية' و'الروافض' أينما وجدوا على الأراضي السورية، وأنّ التنظيم لن يترك لهم فرصة ليعيدوا بناء مجدهم. طبعاً فالبيان يتحدث هنا عن العلويين. وتابع البيان بأنّ الهجمات ستكون وفق أسلوب 'الذئاب المنفردة'، وأنّه ليس لدى التنظيم أي مكان ثابت يتمركز فيه، ولا مقرات ومكاتب، 'فنحن قوة لامركزية'.
والسؤال الذي لا بدّ منه هو حول طريقة تأمين هذا التنظيم الشبحي وغيره من التنظيمات التمويل المطلوب له، خصوصاً في ظلّ واقع إقتصادي ومعيشي مزرٍ في سوريا، وهو ما تعاني منه وبمقدار كبير القوات العسكرية التابعة لحكومة الشرع. ما يعني أنّ هذا التمويل يأتي من خارج الحدود، وأنّ الهدف هو دفع سوريا إلى الفوضى العارمة. ومنذ أيام معدودة انفجرت سيارة مفخخة وسط مدينة الميادين في شرق سوريا مستهدفة مركز شرطة المدينة. ويأتي ذلك بعد الحملة التي قام بها جهاز الأمن العام على خلايا تابعة لتنظيم 'داعش' عند ضواحي حلب. وبالتالي فإنّ من المنطقي الربط بين العمليتين.
واستطراداً، فإنّ النمو السريع للخلايا العنفية مع تأمين مصادر تسليحها وتمويلها من خارج الحدود، يدفعان إلى التساؤل عمّا إذا كان هنالك من مشروع كبير يهدف لأخذ سوريا إلى فوضى يمكن استثمارها في إطار كسر القواعد الجديدة التي رست عليها سوريا، وإلى دفع الوضع في اتجاه إجراء فرز داخلي كامل على نار حامية. وهنا يصبح الملف المتعلق بالتطبيع مع إسرائيل وقوداً لحمّام الدم الآتي أكثر منه نافذة خلاص إقتصادية.
وبالتالي فإنّ الدعوات القائلة بوجوب الإندفاع وذهاب لبنان إلى البدء بإجراءات التطبيع مع إسرائيل تطرح كثيراً من علامات الإستفهام. فهو إما لا يفقه بما فيه الكفاية التركيبة اللبنانية ودقة ما تختزنه من تناقضات وتعقيدات، أو أنّه يدفع بالوضع اللبناني إلى أتون الفوضى مجدداً. ومن دعا إلى التمثل بالخطوة التي قام بها الشرع من 'الزاوية'، فهو لن يتأخّر في العودة عن دعوته مع انكشاف المخاطر الأمنية التي باتت تحوط بسوريا.
في الأمس فتحت زيارة رئيس السلطة الفلسطينية للبنان ملف السلاح الفلسطيني في المخيمات، وهي بداية ممتازة ولو أنّها ليست المرّة الأولى. ذلك أنّ قراراً مشابهاً كان أعلنه عباس لدى زيارته لبنان في تموز 2013، ولكنه بقي حبراً على ورق. صحيح أنّ الظروف اللبنانية الداخلية اختلفت وكذلك المعادلة الإقليمية العريضة إضافة إلى الواقع الفلسطيني بعد الحرب المدمّرة في غزة، إلّا أنّ التسويات الكبرى لا تزال غائبة. فالتسوية الفلسطينية في غزة تراوح مكانها وسط استمرار تدفق شلال الدم. وكذلك التسوية الأميركية ـ الإيرانية لا تزال تخضع لمناورات الطرفين. وفي وقت بدت طهران 'غير ممنونة' للموقع الذي احتلته السعودية بعد زيارة ترامب لها، رفع المرشد خامنئي من سقف 'تشاؤمه' حيال احتمالات التوصل إلى اتفاق مع إدارة ترامب. وتلت هذا الكلام تسريبات أميركية عبر وسائل الإعلام، بأنّ إسرائيل تجهّز نفسها لضرب منشآت نووية إيرانية، وهي تعمل على ذلك بنحو منفرد.
لكن الواضح أنّ ما يحصل يدخل في إطار المناورات التفاوضية لا التحذيرات أو التهديدات الجدّية. فلا الظروف الخارجية توحي بأنّ الأجواء مهيأة للذهاب إلى المواجهات العسكرية، ولا الأوضاع الداخلية لكلا البلدين تملك 'رفاهية' الإنزلاق في اتجاه الحروب. ما يعني أنّ التفاهم هو الخيار المحتوم. لكن السؤال هو متى وكيف ستكون هذه التفاهمات؟
وبالتالي، فإنّ الأجواء التمهيدية لزيارة الموفدة الأميركية مورغان أورتاغوس، والتي تتحدث عن مطالب يتعلق بعضها بالتطبيع مع إسرائيل وسط سقوف عالية قد لا تبدو واقعية، خصوصاً إذا ما نظرنا إلى المستجدات في سوريا وكلام روبيو.
لكن اللافت ما ردّده أحد الخبراء في السياسة الأميركية. فرداً على سؤال عمّا إذا كانت واشنطن تعتقد فعلاً أنّ لبنان قادر على السير في التطبيع مع إسرائيل، كان جوابه بأنّه لا يعتقد ذلك. قد يكون لواشنطن مطلب آخر يختبئ خلف مطلب التطبيع، وقد يتمّ الكشف عنه في التوقيت المناسب. أما الآن فالتركيز الحقيقي هو حول إعادة بناء ركائز الدولة اللبنانية، ولكن على أسس صحيحة وسليمة هذه المرّة.


حتى كتابة هذه السطور لم يتبلّغ أي مرجع رئاسي او حكومي أو ديبلوماسي أي موعد لزيارة اورتاغوس لبيروت، وكل ما في الأمر انّ على جدول أعمالها زيارة للبنان كانت مبرمجة على وقع النتائج المترتبة من زيارة ترامب للخليج العربي. وقيل بنحو غير رسمي إنّها ستجول في عواصم عدة بعد مغادرتها قطر، حيث شاركت في «منتدى قطر الإقتصادي» في الدوحة، من دون أن تدخل المراجع الديبلوماسية الأميركية في أي تفاصيل أخرى.
ولمّا أصرّ محدث المسؤول الأميركي على معرفة الموعد التقريبي قال إنّ نهاية الأسبوع الجاري قد تحمل خبراً مفيداً عن الموعد المحتمل للزيارة وترتيب مواعيدها، بحيث أنّها لن تقتصر هذه المرّة على لقاءاتها مع المسؤولين الكبار كما جرت العادة، إنما في نيتها مرافقة الجنرال الأميركي الجديد مايكل جي ليني الذي عُيّن خلفاً للجنرال جاسبر جيفرز، إلى اجتماع يُعقد في مقرّ قيادة القوات الدولية «اليونيفيل» في الناقورة بعد طول غياب.
على هذه الخلفيات، قالت المصادر العليمة بكثير مما ما زال مخفياً على اللبنانيين، إنّ الاجتماع المنتظر ليس نهائياً ما لم تتوافر ظروف انعقاده، وهو رهن أن تجري الأمور التي تسهّل انعقاده كما تمّ التخطيط له، وخصوصاً ما هو مطلوب لجهة الإسراع في التخلّي عن السلاح غير الشرعي. وهو سيكون الاجتماع الأول للرئيس الجديد للجنة مع ممثلي الأطراف الأربعة الآخرين فرنسا، لبنان، إسرائيل و»اليونيفيل» والذي سيشكّل إشارة واضحة إلى انطلاق عملها مجدداً بعد فترة من الجمود امتدت منذ آخر اجتماع لها في 8 آذار الماضي، والذي عُدّ فاشلاً بكل المقاييس نتيجة تعثر البرنامج الذي أُقرّ لانسحاب قوات الاحتلال الإسرائيلي من بعض التلال المحتلة في الجنوب، والتي ما زالت تحتفظ بها. وكان ذلك قبل أن تتوالى العراقيل التي لم تتمكن اللجنة من تجاوزها، وزاد من تعقيداتها ما تركه الجنرال جيفرز من تداعيات نتيجة تصرفاته التي لم يجد لها البعض أي تفسير، وخصوصاً عندما تردّد في اتخاذ المواقف الصارمة التي طُلبت منه، متجاهلاً الإعتراض الفرنسي المتشدّد على التعنت الإسرائيلي ومعه ممثلي «اليونيفيل» ولبنان على حدّ سواء، الذي تجاوز بمواقفه المتشدّدة ما رافقها من عنجهية مرفوضة لدى أعضاء اللجنة.
وعند دخولها في التفاصيل تكشف المصادر عينها، أنّ اللجنة ومنذ تشكيلها بعد تفاهم 27 تشرين الاول العام الماضي، لم تنجز بعد الحدّ الأدنى مما هو مطلوب منها من خطوات عملية كانت ستؤدي إلى انفراج ملحوظ في الداخل اللبناني وسقوط المهل التي حُدّدت للانسحاب الإسرائيلي من القرى المحتلة. وهي عملية كان يمكن ان تكون لها انعكاساتها الإيجابية على مستوى تزخيم الإتصالات مع مسؤولي «حزب الله» خصوصاً و»الثنائي الشيعي» عموماً، من موضوع التخلّي عن الأسلحة المنتشرة خارج الجنوب ووقف الإعتراضات المتكرّرة على دوريات «اليونيفيل» في الجنوب والتي من المفترض أن تقوم بمهماتها لضبط الوضع الأمني على قاعدة انّ الجنوب، ولا سيما منه منطقة جنوب الليطاني، باتت خالية من مخازن أسلحة الحزب ومواقعه، وصارت في عهدة الجيش و»اليونيفيل». وهو أمر نزل برداً على قيادة «اليونيفيل» ومسؤولين آخرين نتيجة تجدّد مضايقات «حزب الأهالي» التي تقود إلى التشكيك بأنّ الجنوب ما زال يحتوي أسلحة تطاردها الطائرات الإسرائيلية او تتحجج بها تحت شعار ضرب «منشآت حزبية»، بعدما قيل إنّه تمّ تفكيك اكثر من 500 موقع عسكري للحزب كان وجودها يبرر رفض «جيش النساء» دخول دوريات «اليونيفيل» إلى قلب القرى الجنوبية، عدا عن العمليات العسكرية التي نفّذتها قوات الاحتلال عند قولها انّها تنسف الأنفاق التي كانت محفورة تحت المنازل في أعماق القرى الجنوبية التي دُمّرت.
ولا تقف المخاوف من زيارة اورتاغوس عند هذه الملاحظات التي يمكن تجاوزها، إن وجد قرار سياسي يتخذه الحزب بلا أي تردّد في ما يتعلق بمصير سلاحه تجاوباً مع دعوة رئيس الجمهورية إلى برنامج واضح لإقفال هذا الملف نهائياً. وهي خطوة تمّ ربطها بما قالته اورتاغوس قبل أيام أمام «منتدى قطر الاقتصادي»، عندما قالت في وضوح «إنّ المسؤولين في لبنان أنجزوا في الأشهر الستة الماضية أكثر مما فعلوا على الأرجح طوال السنوات الخمس عشرة الماضية، ولكن لا يزال أمامهم الكثير». وهو أمر يُنبئ بأنّها ستكون في زيارتها المقبلة اكثر تشدّداً في هذا المطلب بما لا يتوقعه المسؤولون قبيل وصولها إلى بيروت. وقد بدا ذلك واضحاً عندما قالت بما لا يتناسب وتريث المسؤولين اللبنانيين في شأن السلاح ما حرفيته: «إنّ الولايات المتحدة دعت إلى نزع السلاح الكامل لحزب الله، وإنّ هذا لا يعني جنوب الليطاني فقط، بل في أنحاء البلاد كافة». وما زاد في الطين بلّة انّها وجّهت الدعوة إلى «القيادة اللبنانية إلى اتخاذ قرار في هذا الشأن».
عند هذه المعطيات، تتفهّم المراجع الديبلوماسية القلق اللبناني من زيارة اورتاغوس المقبلة، لأنّها ستكون أكثر صلابة، وقد تعود إلى خطابها الأول عندما نطقت بعبارات خارجة عن الأصول الديبلوماسية في التعبير عن موقفها الذي يمكن أن يحيي النقاش حول شياطين التفاصيل، وهو أمر بات أكثر رجحاناً بعد زيارة ترامب الخليجية ومسلسل الزلازل التي تسببت بها، ولا سيما منها قراراته الأخيرة التي يمكن للإدارة الأميركية ان تستثمر فيها كثيراً مما تريده على غير مستوى. فقرارها في شأن رفع العقوبات عن سوريا ومحاسبة أذرع إيران خارج حدودها الجغرافية، هو منطق لا يزال ينطبق على الوضع في لبنان وفق النظرة الأميركية للأمور بتفاصيلها، ومعها دول الخليج العربي والأوروبيون الذين انخرطوا في برامج رفع العقوبات عن سوريا بعد الولايات المتحدة، وهي التي ربطت كل أشكال المساعدات والقروض بمصير هذا السلاح، بطريقة أكثر فظاظة على حدّ ما نُقل عن مسؤولين أميركيين يواكبون خطواتها في لبنان والمنطقة.
