لا خوف على الكويت بعد التدابير والإجراءات والقرارات التي اتخذها أميرها الشيخ مشعل الأحمد الصباح، ولا خوف على أي بلد لا تتردّد قيادته في اتخاذ القرار الذي تراه مناسباً لشعبه واستقراره وازدهاره، والخوف يكون غالباً في حالة اللاقرار.
لو لم يحسم الملك الأردني الموقف في أيلول عام 1970 ويمنع السلاح الفلسطيني على أرضه لكانت دبّت الفوضى في الأردن كما دبّت في لبنان بسبب فشله في اتخاذ القرار السيادي المناسب، فانهارت الدولة منذ منتصف سبعينات القرن الماضي وما زالت على هذه الحالة بفعل غياب القرار السياسي.
فلا خوف على وطن لديه قيادة تتخِّذ ما تراه ضرورياً من قرارات، وكل الخوف على الدول التي قياداتها متردِّدة وخائفة ومائعة وتحسب ألف حساب قبل اتخاذ الموقف الذي يحمي شعبها وبلدها، ولم تتراجع هيبة الدول في هذا العالم سوى بفعل غياب القادة التاريخيين الذين يشعر معهم المواطن بوجود حكام حقيقيين.
ومن هذا المنطلق، لا خوف على الكويت بعد القرارات الأخيرة التي اتخذها أميرها، لأنّ قرارات بهذه الضخامة تشكّل رسالة للجميع بأنّ لا تهاون مع أحد على حساب استقرار دولة الكويت والمصلحة العليا لشعبها. وكان الأمير أمام خيارين، إما ترك الأمور على ما هي عليه والسعي لمعالجات بالمسكنات، ما يعني استمرار الأزمات وتفاقمها، وإما اللجوء إلى خطوات جذرية بإخضاع الكويت لعملية جراحية لاستئصال المرض، وهذا ما قام به أمير الكويت من دون تردُّد، من خلال وقفه العمل ببعض مواد الدستور وتعليق البرلمان لمدة لا تتعدى أربع سنوات، بعدما وجد انّ «اضطراب المشهد السياسي وصل إلى مرحلة لا يمكنني السكوت عنه».
وخطورة العلاج بالمسكنات لا تكمن فقط بالتعايش مع المرض، أي الأزمة، لأنّ المرض لا يبقى على حاله، إنما يتمدّد ويتوسّع أفقياً وعمودياً ويتشعّب، فمعالجة مثلاً وضعية «حزب الله» في لبنان منذ مطلع تسعينات القرن الماضي كانت أسهل بكثير من معالجتها اليوم، فيما لبنان يستحيل ان يعرف الاستقرار والازدهار وان تقوم الدولة الفعلية في ظل احتفاظ الحزب بسلاحه ودوره الإقليمي، ومعالجة الوضع اللبناني بالمسكنات عن طريق التسويات الظرفية أدّت إلى مزيد من تفاقم المشكلة اللبنانية وتعزيز قوة الحزب، فيما المطلوب الوصول إلى تسوية نهائية تؤدي إما إلى تسليمه سلاحه، وإما إلى الانفصال عنه، إذ لا يوجد في القضايا الإنسانية والسيادية والدولتية أنصاف الحلول.
وفي الشكل أيضاً، اي تجربة في أي دولة في العالم تُثبت بالممارسة بأنّها فاشلة من الخطيئة التردُّد في إعادة النظر بها. وقد وجد أمير الكويت انّ هناك خللًا في تجربة الحكم الكويتية تستدعي تجميد كل شيء، بهدف تقييم المسار ليُبنى على الشيء مقتضاه. وهذا ما فشل أيضاً لبنان في القيام به بسبب تعدديته التي تحولت من نعمة إلى نقمة. فهذه التعددية بالذات التي حالت دون أن يحسم الجيش اللبناني ضدّ المنظمات الفلسطينية المسلحة في مطلع سبعينات القرن الماضي، هي نفسها التي تحول دون تشخيص موحّد للأزمة وحلول وحدوية او انفصالية لهذه الأزمة، لأنّ المطلوب الوصول إلى حلول جذرية لا التعايش مع الأزمات وكأنّها مسألة طبيعية وأبدية. فهل يُعقل مثلاً البحث في انتخاب رئيس للجمهورية بدلاً من البحث في جوهر التجربة اللبنانية التي تنقلّت على مدى خمسة عقود بين فشل وآخر، وأبقت لبنان مساحة فوضى وفلتان وخراب؟
وأما في المضمون، فمن الواضح انّ المسيرة الديموقراطية في الكويت قد أدّت إلى شلّ عمل الدولة واضطراب المشهد السياسي وانعدام الاستقرار، وكان لا بدّ من قرار حازم وحاسم بتعليق عمل البرلمان وبعض المواد في الدستور تمهيداً لإعادة تقييم هذه التجربة، وفي ضوء هذا التقييم يصار إلى إدخال التعديلات المطلوبة في الدستور من أجل ان تستقيم الحياة السياسية.
والاهتمام بالكويت مردّه إلى كونها دولة مسالمة وقفت دوماً إلى جانب الدول العربية ومدّتها بالمساعدة والدعم والمؤازرة وفي طليعتها الدولة اللبنانية، فكانت سنداً كبيراً للبنان، ولم تتدخّل يوماً في شؤون اي دولة أخرى، وهذا ينمّ عن ثقافة فريدة يجب الحفاظ عليها وتعميمها في مواجهة ثقافة الأطماع والتمدُّد والتدخُّل على نسق المشروع الإيراني التخريبي لدول المنطقة.
وما نعتقده، من بعيد، انّ خريطة الطريق الأمثل لدولة الكويت الشقيقة تفترض اعتماد ثلاثة مسارات أساسية:
المسار الأول، القرار السياسي الأحاديّ: يستحيل ان يعرف اي بلد التقدُّم والازدهار إذا كانت آلية اتخاذ القرار معطّلة ومشلولة، ومعلوم انّ الاستقرار الاقتصادي مرتبط بالاستقرار السياسي، والأخير بحاجة لقرار، وما تحتاجه الكويت أكثر من اي يوم مضى هو الديكتاتورية العادلة التي وحدها تعيد الأمور إلى مسارها ونصابها.
فالغلبة يجب ان تكون دائماً لأمير الكويت الذي يترك المسار الديموقراطي يأخذ مداه إلى ان يحين وقت اتخاذ القرار، فيعود له وحده تحديد الموقف والمسار، فعندما كان رئيس الجمهورية في لبنان حاكماً كانت أوضاع الجمهورية أفضل بكثير، وعندما انتقل القرار إلى مجلس الوزراء مجتمعاً ساءت كثيراً أوضاع الجمهورية التي أصبحت من دون قرار، ولأنّ التعددية اللبنانية تحول دون رئيس فعلي للجمهورية، فلا حلّ سوى بتحويلها إلى جمهوريات لبنانية.
المسار الثاني، اقتصادي داخلي: بالتوازي مع اي خطوات إصلاحية في بنيان السلطة وهرميتها ومركزية القرار داخلها، من الأفضل حرف أنظار الناس وتركيزها باتجاه مسارات أخرى وبما يفيدها ويخدمها، وهي مسارات يجب ان تكون من البديهيات أساساً وفي الأزمنة كلها.
فالكويت تملك الموارد والإمكانات والطاقات والنخب والقدرة، وما عليها سوى ان تبادر من أجل وضع الخطط الطويلة الأمد للكويت، وهذه الخطط والمشاريع تجعل أنظار الكويتيين شاخصة باتجاهها، من قبيل خطة سياحية او مدينة سياحية تنتهي في 2030، كما تجعل من الكويت مركز استقطاب الرساميل والاستثمارات والسياح والإعلام (...).
المسار الثالث، السياسة الخارجية: من المفهوم لدولة مسالمة ومحايدة وتترك الإدارة الخارجية لدول الخليج للمملكة العربية السعودية، وبالتالي من المفهوم ان تكون خارج المبادرات والمساعي، ولكن هذا لا يمنع من ان تكون عاملاً مساعداً للمملكة في مقاربة الأزمات العربية والإقليمية والسعي لمعالجتها، لأنّ الحضور على المسرح الدولي والإقليمي يمنح اي دولة القوة والحيثية والدور.
فقوة الولايات المتحدة الأميركية مثلًا ليست فقط في دولارها واقتصادها وحداثتها، إنما في حضورها في أزمات العالم كلها، واستعداد جيشها للقتال والتدخُّل في هذه الأزمات، وبالمقابل على رغم انّ المنافس الاقتصادي الأول لأميركا هو الصين، إلّا انّ غياب الأخيرة عن أزمات العالم يجعلها قوة ثانوية لا رئيسية.
وعدا عن كون لعبة الضوء أساسية لأي بلد إن من خلال الاستثمارات والخطط الاقتصادية التطويرية والحداثوية، او عن طريق الحضور على المسرح الخارجي، فإنّها تؤدي إلى إشغال الناس بما يفيدها، وقطع الطريق أمام من يحاول دوماً استغلال نقمة الناس تحقيقاً لمشاريع تآمرية، كما انّ المبادرات الداخلية والخارجية التي تُبقي الدولة في دائرة الضوء تحوِّل شعبها إلى قوة مساندة ورافعة لخطواتها ومدافعة عنها، فتشركه في النهضة التي تهندسها، وتربطه مع عواصم العالم.
وعلى رغم اختلاف الواقع بين الكويت ولبنان، إلّا انّ الكويت أمام فرصة تاريخية لتجديد ذاتها وتطوير تجربتها بما يخدم مصلحة الكويت العليا والكويتيين، والفضل بذلك طبعاً يعود للشيخ مشعل الأحمد الصباح، الذي قال بوضوح «الأمر لي» واضعاً حدّاً للاضطراب وعدم الاستقرار، ومطلقاً مساراً جديداً للدولة ضَمَن من خلاله مستقبل دولته كدولة مستقرة قادرة على مواكبة ومنافسة الدول الحديثة. والأمل بأن ينتزع لبنان فرصة جديدة وتاريخية للقطع مع تجربة وحدوية إلغائية وإلحاقية عنوانها الشلل والفشل، باتجاه تجربة انفصالية سلطوياً وحدوية جغرافياً، تعيد أمل المجموعات اللبنانية ببلدهم.