الشيزوفرينيا النقدية والعقول الأدبية الفارغة
الشيزوفرينيا النقدية والعقول الأدبية الفارغة
نسرين بلوط
Wednesday, 10-Apr-2024 06:39

لا أحد ينكر بأنّ الاجهاض النقديّ الذي يطمس آثارَ الحقيقة ويجمّل أعمالاً غوغائيّة إنّما يَنبع عن التهوّر الناجم عن الفساد والذي يصعب لَجمه في انطولوجيا تحمل على جناحيها الكثيرَ من الازدواجيّة والشيزوفرينيا الانسانيّة التي تبيحُ المحظورَ وتريحُ المحسوبَ على هامش الابداع، وتؤذن لأصواتٍ تجلجل بنشازها بأن تجهشَ بكلّ عقدها المتوارثة عن بيئتها الهشّة البائرة.

وقد حاول الكثير من النقاد الذين لا ينتمون لفئة المجاملين والقامعين للحقيقة، تصويبَ المرام وتحقيق المقام المستحق لكلّ صوت، مستبطنين الاشارات المضمرة الخافتة والثاقبة للشك والريبة، والثلاثيّة الأطراف أي التي تجمع بين التدقيق والتقييم والتصحيح.

وقد عبّر الناقد الاسباني خافيير سيرماس عن وَلعه بالتراث العربي الذي يجاهر مضمونه بأصول الأدب الاسباني الذي استمدّ إثر مرثيته النوستالجية من جذور الانقلاب المباغت الذي حدث في الأندلس وانقلبت على أثرها البلاد رأساً على عقب، وقد اعتبر أنّ أيَّ خلل يمسُّ الأدبَ العربي الذي يطفح اليوم بالقشور التي تشبه الطحالبَ السامّةَ، تؤثّرُ سلباً وتعيقُ حركة تطوّر الأدب الاسباني، لأنّ المفهومَ «الإيكولوجي» أي البيئي ينطبقُ في الخصوصيّات الحميمة لكلّ منهما والتي تجمع بينهما على خصال متوحّدة تتعاضد مع بعضها البعض.

وقد يسترجع الابداع جذوته رغم ما يتناهب الانسان من شواغلَ حارقة، ليتبددَ أثرُ الانفلات السائد هذه لأيّام، وقد عبّر الناقد خوان غويتيسولو عن تخوّفه من الهوّة السحيقة التي تنشب معضلاتها في طريق الأدب الحقيقي، فنصب شرك الاتّهام للكثير من كتّاب هذا العصر كونهم منغلقين في فكرهم وأرواحهم، لا تتناغم نفوسهم مع مفاعيل الجماليّات الأدبيّة، وينشغلون بالمحدود من التفكّر والتعمّق والاطّلاع. وقد أظهر ولعه بالأدب العربي النقي قبل التلوّث الحاصل هذه الأيّام، لما فيه من تخليق أنماطٍ وبراعةٍ فائقة، وتنويل أفكارٍ مخمليّة تستحقّ إدراجها في إطار الفكر الخلّاق والخارق.

أمّا الناقد خوسيه إنفانتي فقد تعمّد أن يظهرَ ضرورة الالتزام في الأدب على غرار الكتّاب الروس الذين تجاذبهم فيض الأدب، والحفاظ على تراث الأدب العربي وتطهيره من الشوائب المستحدثة والتي طرأت عليه بعد تفشّي ظاهرة البحث عن الأضواء، لأن الثقافة العربية على حدّ تعبيره قد تغلغلت في الروح الفرديّة للشعب الاسباني.

لا يمكن لمجتمع تسوده نظريّات ايديولوجيّة مبعثرة وغير متناسقة أن يضبط هذه الرؤى التبشيرية للعقول السطحية للتي تغزو ميادينه الأدبيّة والفكريّة والثقافيّة عن طريق مواربٍ للأخلاق، وقد تطرّق الناقد الفرنسي أنجيلو رينالدي الى فحص أخطاء الأقلام المتدنّية بمنظار اللوم والتقريع، وخلّف نقده الكثير من الندوب والقليلَ من المسرّات لدى معظم كتّاب عصره وقد وصف نقده بنوعٍ من العدوانيّة والاستفزاز، اذ انّه تخطّى حدودَ الترميز ليبلغَ ذروةَ التجريح. فهل يحتاج المجتمع الأدبي اليوم إلى هذا النوع من النقّاد لتقويم اعوجاج مساره السادر؟ وهل ينبغي تعشيق المواضيع النقديّة التي تتناول ذلك النثار الأدبي المتردّي والذي يبيح لأيٍّ كان أن يكتبَ وينشرَ ويدّعي ما لا يمتلكه من طاقات مستعيراً قلمَ غيره أو مستبيحاً لنفسه سرقةَ مفرداتٍ وعبارات أو مقالات لا تمتّ إليه؟

إنّه زمن التطبيل والتنميق والتزييف والوأد الابداعي، تكتنز معالمَه بثور الجهل والسطحيّة والتنمّر، وديستوبيا المجتمع الفاسد الذي يميّز القويّ بما يدّخره من مال وليس ما يحتويه من علمٍ ووعي وثقافة واعية. وقد لا ينال حالة الادراك العليا التي تفرضها الفلسفةُ الاستنباطيّة التي ترسّخ الحقائقَ وتبسّط الاستنتاجات الصائبة، وتنبض بِوَحي رؤيوي وإدراكي، كما تنبّأ الكاتب البرتغالي جوزيه ساراماغو بعالَمٍ مُرتبك يحبطه الموتُ الفكريُّ الشامل.

إنّ المشاكسات الفلسفية القائمة بين الوعي الابداعي والتعتيم الفكري لإظهار نقيضه، ما تزال تحتلّ صدارة مجتمعاتنا العربية، وتربض بين زلّات الرصيد الفكري الفارغ للكثير من كتّاب هذا العصر، ومهمّة الناقد الذي يحصد بضميره رؤوس هفواتهم وحماقاتهم الكثيرة، فهل يَتّعظ النقد لاستيعاب هذه الفواحش المستجدّة قبل فوات الأوان؟

theme::common.loader_icon