نَشطت في الفترة الأخيرة نظرية التفرقة بين الودائع على أساس شرعي أو غير شرعي، بدلاً من التصنيف السائد بين مؤهل وغير مؤهل. فهل يمكن انجاز هذا التصنيف؟ وهل من تقديرات لحجم الاموال غير الشرعية الموجودة في المصارف، ام انّ هذا النوع من المطالبات هو من نوع ذَرّ الرماد في العيون، للتعمية وإضاعة المزيد من الوقت؟
منذ أن تحدث حاكم مصرف لبنان بالانابة وسيم منصوري عن نظرية الفصل بين الودائع على اساس ما هو شرعي وما هو غير شرعي، معتبراً انّ خطوة من هذا النوع سوف تخفّض حجم الودائع المطلوب تسديدها بنسبة كبيرة، حتى توالت المواقف في تقييم هذا الطرح، بين مؤيّد ومنتقد. واعتبر منصوري ان هذا النوع من التصنيف ينبغي ان يحل مكان التصنيف السائد، بين مؤهل وغير مؤهل. ومن المعروف ان هذا التصنيف يعتبر انه لا يمكن المساواة بين الودائع الدولارية قبل تشرين 2019، وبين تلك التي جرى تحويلها او دخلت الى القطاع المصرفي بعد هذا التاريخ.
وللتوضيح، ما قصده منصوري هو انّ نسبة لا يُستهان بها من الودائع الموجودة في المصارف هي اموال "وسخة" جرى تبييضها من خلال إدخالها الى القطاع المالي، وهي اموال ناتجة عن جرائم اقتصادية يعاقب عليها القانون، من ضمنها طبعاً الاموال المسروقة التي حصل عليها اصحابها من عمليات النهب العام السائدة في الدولة.
من حيث المبدأ، لا يُفترض بطرحٍ من هذا النوع أن يثير اعتراضات، على اعتبار انه يفصل بين المال الحلال والمال الحرام. لكن التساؤلات التي ظهرت الى العلن تتعلق بواقعية الطرح اولاً، على اعتبار ان المبدأ الاول لنجاح اية فكرة هو التأكّد اذا كانت قابلة للتنفيذ ام لا، لئلا تتحول الى ذريعة للمراوحة ومنع الحل الحقيقي الممكن، وتتعلق كذلك بالعدالة والانصاف، اي يُفترض ان تؤدّي الطروحات في حال تنفيذها الى معاملة الناس بالعدل والانصاف. فهل ان هذين الشرطين متوفران في طرح من هذا النوع؟
المعضلة في البلد، انّ الفساد تجاوز مرحلة الارتكابات الفردية، ووصل منذ سنوات طويلة الى مرحلة المناخ العام. ولتبسيط هذا الواقع، ينبغي ان نلاحظ ان الجرائم الاقتصادية التي قد تؤدي الى وجود وديعة غير شرعية، تشمل قطاعات واسعة تنطبق عليها صفة التبييض. اي ان الاموال التي تهدف الى تمويل الارهاب، اموال المخدرات، اموال الفساد الناتجة عن الرشاوى، وصولاً الى الاموال التي لم يدفع مالكها الضرائب الحقيقية عليها، كلها اموال غير شرعية وفقاً لقانون التبييض. فهل يمكن تطبيق هذا المفهوم على الودائع لتصنيفها بين الشرعي وغير الشرعي؟
واقعياً، يعيش البلد في ثقافة التهرّب الضريبي منذ عقود، وسياسة الدفترين السائدة في القسم الاكبر من الشركات، وعلى مستوى الافراد، تسمح بالاستنتاج، واذا استثنينا الموظف الذي يتم اقتطاع ضريبة الدخل منه مسبقاً عبر المؤسسة التي يعمل لديها، يمكن التأكيد براحة ضمير انّ غالبية الايرادات التي تتحول الى ودائع قد تحتوي على نوع من انواع التهرّب الضريبي. وهذا الامر اختبرناه عندما طُرحت فكرة مراقبة تسديد الضرائب عبر حركة الاموال في المصارف، ومقارنتها بالكشوفات التي يتم التصريح بها الى وزارة المالية لدفع الضرائب. هذا المشروع لم ير النور، لأسباب معروفة. أما اذا كان المقصود بالطرح، تحييد هذا النوع من الجرائم المالية، (اذا كان ذلك ممكناً قانونياً)، والاكتفاء بأنواع محددة تشمل التبييض الناتج عن تجارة المخدرات او تمويل الارهاب أو السرقة من خلال استغلال الموقع الوظيفي او المنصب السياسي، فقد يكون من المفيد العودة الى سجلات هيئة مكافحة التبييض التي يترأسها حاكم مصرف لبنان، لاكتشاف كمية هائلة من ملفات الشبهات النائمة في أدراج القضاء، وبعضها لم يصل الى القضاء.
هذه المفارقة واضحة من خلال التحقيقات التي أجرتها لجنة (FATF) والتي قرّرت بموجبها، في اجتماع البحرين، عدم إدراج لبنان على اللائحة الرمادية. في هذا التقرير اشارة واضحة الى انّ عمل المصارف وعمل هيئة التحقيق الخاصة جيد، والملاحظات في هذا المجال طفيفة. في حين اشار التقرير الى الثغرة الفاضحة الموجودة في القضاء، حيث تصل اليه الملفات وتنام. ومن البديهي انّ نوم هذه الملفات ناتج عن تدخلات سياسية تمنع قيام تحقيقات قضائية في حق جهات مشبوهة تحظى بحماية سياسية او حتى دينية. وهناك مئات من القضايا المتعلقة بجرائم التبييض لم يتم استكمالها للوصول بها الى النطق بالحكم وتنفيذه. وقد رفعتها مصارف الى مصرف لبنان، لكي يتمّ التحقيق فيها.
من هنا، واذا كان المطلوب فعلاً اكتشاف الاموال غير الشرعية، ولئلّا يتحول اي طرح في هذا السياق الى ما يُعرف بالـ(Wishful thinking)، يمكن البدء بما هو متوفر في سجلات هيئة التحقيق الخاصة ولدى سجلات القضاء. هذه القضايا تشمل لائحة طويلة من المشتبه بهم، وتضمّ تشكيلة من موظفين كبار مدنيين وعسكريين وسياسيين، كما تضم شخصيات دينية ايضاً، بالاضافة الى مؤسسات. فلماذا لا يتم تحريك هذه الملفات، وربما الكشف عن هويّات المشتبه بهم، اذا كان القانون يسمح بذلك، ومن هنا نبدأ، ومن ثم لكل حادث حديث.