وجّه النائب جبران باسيل دعوة إلى بكركي «لتجمع القيادات المسيحية بمن حضر، لرفع الصوت بمواجهة عملية الإقصاء المتعمّد يلي عم يتعرّض له المكون المسيحي».
الإقصاء الذي يجب معالجته يتعلّق بإقصاء دور الدولة عن تحمُّل مسؤولياتها السيادية، بدءاً من احتكار السلاح، وصولاً إلى السيطرة التامة على الحدود مع إسرائيل وسوريا، لأنّ هذه الحدود المشّرعة تُبقي لبنان ساحة ضمن وحدة ساحات المشروع الإيراني، وما لم يُعالج هذا الإقصاء بالذات فعبثاً البحث عن شراكة ومساواة وعدالة وحرّية وإصلاح واقتصاد.
ولا يمكن إنكار او التنكُّر لحجم الأزمات التي تعصف بلبنان، إلاّ انّ معالجتها تبدأ من معالجة الأزمة الأساسية المسبِّبة لكل هذه الأزمات، وهناك من يريد القفز فوق الأزمة الرئيسية سعياً لمعالجات بخلفية سلطوية لا مبدئية، ومن لا يقيم وزناً للإشكالية الحقيقية التي تعوق قيام الدولة الفعلية يعني انّ أهدافه خاصة لا عامة، وانّه ما زال ضمن سياسة شدّ الحبال مع حليفه الذي تخلّى عنه رئاسياً، وانّ هدفه من اي اجتماع في بكركي رفع مستوى المواجهة مع حليفه من أجل ان يعيد العمل بمعادلة سلطة مقابل سلاح.
ولا بدّ في هذا السياق من الإشارة إلى تفصيل ولكنه مهم، وهو انّ الحكومة التي يشكو النائب باسيل من ممارساتها هي الحكومة الأخيرة في عهد الرئيس ميشال عون، وله فيها الحصّة الأكبر وتمّ تشكيلها من لون واحد ومن ضمنها «حزب الله» حليف باسيل، ونالت ثقته في البرلمان، فيما المعارضة حجبت عنها هذه الثقة، وبالتالي مصدر شكواه متأتٍ من فريقه السياسي.
ولا بدّ من سؤال أيضاً: هل كان النائب باسيل ليرفع صوته لو انّ «حزب الله» اتفق معه في الملف الرئاسي ووقف إلى جانبه ضدّ التمديد لقائد الجيش ورفض اجتماعات الحكومة؟ بالتأكيد كلا، وهذا يعني انّ مشكلة باسيل هي مع الحزب أولاً، ومشكلته ثانياً سلطوية لا سيادية.
ويقول النائب باسيل انّه يعترض على وحدة الساحات وانخراط «حزب الله» في حرب غزة، وهذا أمر جيِّد، ولكنه مع الحزب وخلفه في حماية لبنان، وهذا أمر سيّئ، خصوصاً انّ جوهر الأزمة اللبنانية بعد العام 2005 يتعلّق بهذه الحماية بالذات التي صادرت الحقّ السيادي للدولة بحجج واهية من قبيل عدم جهوزية الجيش، فيما حرب غزة أظهرت عدم جهوزية الحزب، وأسقطت كل نظرية توازن الرعب.
فمعالجة مشكلة الإقصاء تكون إما من خلال تحرير الدولة وإمساكها بقرار الحرب واحتكارها للسلاح وسيطرتها على الحدود مع إسرائيل وسوريا، وإما عن طريق الفصل والانفصال عن «حزب الله»، وكل كلام غير ذلك يندرج في سياق الاستهلاك السياسي وتحسين الشروط الخاصة لا الوطنية.
وقد واجه لبنان منذ ستينات القرن الماضي لغاية اليوم ثلاث أزمات كبرى، فلسطينية وسورية وإيرانية، وعبثاً السعي لمعالجة أزمات مهمّة طالما انّ الأزمة الأهم لم تُعالج، فيستحيل مثلاً الكلام عن إصلاح في الحرب او الحديث عن عدالة في زمن الاحتلال، وللمصادفة انّ المسيحيين بأكثريتهم الساحقة وقفوا ضدّ المشروعين الفلسطيني (الدولة البديلة)، والسوري (إلحاق لبنان بسوريا)، فيما النائب باسيل خرج عن هذه القاعدة مع المشروع الإيراني الذي لا يختلف عمّا سبقه بإبقاء لبنان ساحة مشرّعة للفوضى ودولة صورية وحدود مفتوحة وإلحاق للبنان بإيران بدلاً من سوريا والثورة الفلسطينية.
فالبيئة المسيحية هي الأكثر تعددية مقارنة بالبيئات الأخرى، ولكن تعدديتها وصراعاتها واختلافاتها لم تحل يوماً دون اتفاقها على رؤية مسيحية لبنانية واحدة، والخلاف كان مع أقلية مسيحية، فالمزاج المسيحي العام كان ضدّ «فتح لاند»، والمزاج المسيحي العام كان ضدّ «سوريا لاند»، ومن البديهي ان يكون هذا المزاج ضدّ «إيران لاند» كون المشروع الإيراني الذي يستبيح السيادة اللبنانية لا يختلف عن المشروعين الفلسطيني والسوري، وخطورة الحالة العونية انّها استفادت من شعبية مسيحية بسبب وقوفها في الخط المسيحي المواجه للمشروعين السوري والفلسطيني، وعادت وصرفت هذه الشعبية بتأييدها للمشروع الإيراني، وهذا كان أول خروج مسيحي شعبي من الخط الماروني التاريخي، وهذا الاختراق الكارثي الذي أساء إلى دورهم وصورتهم وسمعتهم سهّل عملية تمدُّد «حزب الله» وسيطرته.
والمشهد المسيحي المطلوب في بكركي ليس لصورة تجمع القوى المسيحية لكونهم مسيحيين، إنما لوحدة موقف وطني بين المسيحيين حول الخط المسيحي التاريخي وثوابت الكنيسة المارونية التي تبدأ بالسيادة ولا تنتهي باحترام أسس التعددية التي تجسِّد جوهر الميثاق الوطني، ولا قيمة لمشهدية من دون معنى وموقف سيادي ومبدئي واحد، وقوة المسيحيين التاريخية متأتية من وضوحهم السياسي وتشكيلهم رأس حربة الدفاع عن الدولة والسيادة والحرّية والتعددية.
والموقف المسيحي الذي يجب العمل على بلورته وصدوره من بكركي يجب ان يعبِّر حكماً عن تطلعات المسيحيين والمسلمين بدولة سيدة وحرّة ومستقلة، فلا مشكلة إطلاقاً باجتماع مسيحي، إنما المشكلة بما سيصدر عن هذا الاجتماع، لأنّ دور المسيحيين تاريخياً في التعبير عنهم وعن المسلمين الذين يريدون وطناً لا ساحة. فهل النائب باسيل على استعداد للعودة إلى ما قبل 6 شباط 2006 تاريخ توقيعه التحالف مع «حزب الله»، اي عودة الإبن الشاطر إلى الخط المسيحي التاريخي الذي وقف ضدّ المشاريع التي حولّت لبنان إلى ساحة؟
وما هو ظاهر لغاية اليوم، انّه ليس في هذا الوارد، بدليل كلامه المستمر عن وقوفه خلف «حزب الله» في حماية لبنان، ما يعني انّ شكوى باسيل سلطوية، ويريد من اجتماع بكركي رفع منسوب الضغط على الحزب من أجل ان يعيد الأخير النظر بسياسته تجاهه، لأنّ هدفه السلطة في دولة الحزب وليس الدولة التي يريدها المسيحيون. وبالتالي المدخل لاجتماع بكركي عودته إلى ما قبل تحالفه مع الحزب ومطالبته الأخير بتسليم سلاحه، ولن يقبل اي فريق مسيحي سيادي بالمشاركة في اجتماع في بكركي الهدف منه ان يستخدمه النائب باسيل لتحسين شروطه مع الحزب.
ومن الواضح انّ النائب باسيل يريد ان يستفيد من المناخ المسيحي المعارض للحزب تحسيناً لوضعيته الشعبية بكلامه عن الخلاف معه في ملفات عدة، ولكن من دون ان يخسر الرافعة السلطوية التي يؤمِّنها له الحزب، وقد اختبر محاسنها وجدواها من النيابة إلى الوزارة وصولاً إلى الرئاسة، وهذا ما يفسِّر رفضه لحرب غزة المرفوضة مسيحياً من جهة، وتأييده لدور ما يُسمّى المقاومة في حماية لبنان من جهة أخرى، وهذا يسمّى لعباً على الكلام، حيث يظن انّ موقفه من غزة في ظل غبار معاركها يخفي موقفه من سلاح «حزب الله»، وهو بهذا المعنى يوجِّه رسالة إلى الحزب فحواها انّه لم ينتقل إلى ضفة القوى المعارضة لسلاحه، فيما القاصي يعلم والداني أيضاً، انّ أزمة لبنان الرئيسية منذ العام 2005 سببها سلاح الحزب ودوره.
وبماذا يختلف أساساً جرّ «حزب الله» لبنان إلى حرب غزة عن جرّه لبنان إلى حرب تموز 2006 التي وفّر لها النائب باسيل الغطاء؟ وبماذا يختلف جرّ لبنان إلى حرب غزة عن اجتياح الحزب لبيروت في 7 أيار 2008 التي حظي فيها الحزب بغطاء باسيل الكامل؟ وبماذا يختلف جرّ لبنان إلى حرب غزة عن دخول الحزب في الحرب السورية دفاعاً عن النظام وضدّ الشعب السوري واستجلاب تداعياتها على لبنان، والتي وفّر باسيل الغطاء لهذه الحرب أيضاً، وكان يفترض بديهياً ان يؤمِّن باسيل الغطاء لتوريط الحزب لبنان بحرب غزة، لأنّ ما يقوم به الحزب اليوم لا يختلف عّما قام به بالأمس، ولكنه لم يفعل ذلك ليس لأسباب مبدئية، إنما بفعل الخلاف السلطوي، فلو تعهّد الحزب بانتخاب باسيل او الموافقة على من يرشحه لكان وقف في مناسبة 14 آذار الخاصة به مخوّناً كل من لا يقاتل دفاعاً عن «حماس» ومعدّداً الأسباب «الأخلاقية» لهذا الموقف.
ويقول النائب باسيل انّه لم يخرج عن وثيقة التفاهم مع «حزب الله»، إنما الأخير خرج عنها بتخلّيه عن بناء الدولة، وهنا بالذات يكمن لبّ المشكلة ومواصلة تضليل الرأي العام، فأي دولة ستقوم في ظل دويلة، وكيف لدويلة ان تساهم في بناء دولة؟ ومجرّد قيام الدولة يعني انتفاء دور الدويلة، والأخيرة لن تسمح بقيام الدولة، وهذا ما هو حاصل، وبناء الدولة يبدأ من احتكارها للسلاح وإمساكها بالحدود وتحكّمها بقرار الحرب، وأي كلام آخر هو مواصلة تغطية دور «حزب الله»، خصوصاً انّ تعذُّر بناء الدولة عمره 19 سنة وليس سنة او سنتين، ما يعني «فالج ما تعالج»، وقد أظهرت هذه التجربة الطويلة استحالة الإصلاح في ظل تغييب مؤسسات الدولة القضائية والرقابية والأمنية والعسكرية...
ولا تختلف المشكلة اللبنانية عن المشكلة العراقية واليمنية في ظل الأذرع الإيرانية التي تسيطر على أرض الواقع، ومحاولة التعمية عن هذا الواقع لا تنطلي على أحد، ويستحيل حلّ الأزمة اللبنانية من دون حلّ الأزمات التي يسبِّبها الدور الإيراني، وهذا ما يتجاوز قدرة اللبنانيين على حلّه، وبالتالي اي بحث لحلّ الأزمة من خلال الحوار مع «حزب الله» مضيعة للوقت، وما لم يتعالج في 19 سنة لن يتعالج بعد 19 سنة أخرى، الأمر الذي يتطلّب إما حلاً للدور الإيراني بدفع أميركي وسعودي، وإما البحث في كيفية الحدّ من تأثير مشروع «حزب الله» على لبنان برمته، اي بتغيير التركيبة اللبنانية.
ويبقى كل شيء في المرحلة الحالية معلقاً حتى انتهاء حرب غزة، وفي ضوء كيفية انتهاء هذه الحرب، وليس متى تنتهي هذه الحرب، يبدأ الحديث الجدّي، وبالانتظار يجب التهيئة لمرحلة ما بعد الحرب، والموقف المسيحي أساسي بتمسّكه بالخط اللبناني التاريخي، والمشهدية المسيحية في بكركي ضرورية، ولكن شرط تظهيرها لموقف مسيحي صلب بتمسّكه بالسلاح الواحد والدستور والحدود والتعددية والحرية والعدالة ورفضه للبنان الساحة ووحدة الساحات. وصحيح انّ قوّة المسيحيين بوحدتهم، ولكن وحدتهم ليس كمسيحيين بالهوية الطائفية، إنما كمسيحيين بالهوية الطائفية الوطنية، اي وحدتهم حول المبادئ والثوابت والمسلّمات التي تجمع المسيحيين والمسلمين تحت سقف الدولة التي تشكّل المشترك بين جميع اللبنانيين، وبالتالي اي نقاش في بكركي عن إقصاء هو مطلوب ومطلوب بقوة، ولكن هذا النقاش يبدأ بتسليم «حزب الله» سلاحه للدولة، لأنّ هذا السلاح الذي يُقصي دور الدولة يُقصي أدوار جميع اللبنانيين.