السياسة.. فن الكذب!
السياسة.. فن الكذب!
محمود القيسي
Thursday, 14-Mar-2024 06:55

كان يُقال قديمًا: «السياسة فن الممكن».. ولكن في العصر الأميركي الحديث أصبحت السياسة «فن الكذب» والمؤامرات بإمتياز.. مقال توماس فريدمان «الذكي» أو «المُتذاكي» Inside America’s Shadow War With Iran في الخامس من شهر آذار 2024 يستحضر بين طياته الذكريات المرعبة عن «كابوس» داعش.. من دون أن يسمح للقراء ولمن يعنيهم الامر بمجرد التفكير أو بمجرد السؤال من داعش؟.. ومن أين جاءت؟.. وأين أختفت..؟؟؟!

 

من يقرأ هذا المقال بالعقل «النقدي» القائم على تاريخية الأحداث في الشرق الأوسط تاريخيًا.. يستطيع ببساطة ألف باء السياسة الابتدائية إن يقول: إنّ ما يجري من «نزاع خفي» كما أطلق عليه توماس فريدمان بين الاميركي ـ الإيراني ـ الإسرائيلي ليس سوى حرب لم تعّد خافية على أحد... نعم، أنّها حرب على (العالم العربي) من المحيط إلى الخليج العربي ومن الخليج إلى المحيط.. وإعادة تشكيله من شرم الشيخ الى سعسع..

 

وإن قصَر أحدنا قراءاته للأخبار، في إحدى الأيام، على تلك المُتعلقة بالنزاع الإيراني ـ الإسرائيلي المُحتدم، ديبلوماسيًا واستخباريًا، وسيبرانيًا، وفي بعض الأحيان، عسكريًا وإن بصورة غير مباشرة، سيخرج غالباً بإيحاء أولي مفاده أنّ الحرب بين الطرفين باتت قاب قوسين أو أدنى. لكن تاريخ العقود الأربعة الأخيرة، وخصوصاً منذ عام 2005، وحتى اليوم، تغلب عليه، في معظم تلك السنوات، ذات السمات التي ميّزت العلاقة الغريبة بين الطرفين، والتي تثير الجدل دوماً لدى كثير من المراقبين، وسط تشكيك بجدّية كل من إيران وإسرائيل في التورط بحرب أو بصدام مباشر بينهما.

 

وما يجري الآن ليس سوى مسرحيّة التسويات المقبلة.. والهويات الجديدة القادمة... أكثر من أربعين عامًا من النزاع الاميركي ـ الإيراني ولم تقع حرب مباشرةً واحدة بين أقطاب (التحالف الغادر) الاميركي ـ الإيراني ـ الإسرائيلي، في حين دكّت الأرض العربية دكًا دكًا... نعم، دكّت الأرض في العالم العربي دكًا دكًا... وزلزلت الأرض زلزالها.. وأخرجت الأرض أثقالها.. وقال الإنسانُ ما لها..؟! يؤمئذٍ تحدث أخبارها...!

 

تاريخ يمتد لأكثر من 40 عاماً يا مستر فريدمان، سادت فيه تلك الأجواء على صعيد الخطاب المتبادل بين إيران وإسرائيل، من دون أن يتحوّل المشهد حرباً مباشرة، يجعل المراقبين يتريثون في اعتبار الوضع الراهن مؤشرًا الى حرب مرتقبة، بل ربما على العكس، فكلما صعّد الطرفان من لهجتهما تجاه الآخر، كان ذلك مرتبطًا باستحقاق تفاوضي تحت الطاولة، كما هو حاصلٌ اليوم.

 

نعم، كما هو حاصل اليوم بالدماء الفلسطينية الذكية في قطاع غزة وكذبة الساحات ووحدتها التي لا تخدم من بداية المطاف إلى نهاية المطاف سوى (اليهودي) في تاجر بندقية شكسبير وتاجر السجاد الإيراني الذي دائمًا ما يحارب ويراهن بدم الآخرين.. ودائمًا ما يحيك خيوط سجاده ومؤامراته على خرائط الآخرين. نعم، لقد زلزلت الارض زلزالها من سومر إلى كنعان!

 

وسقطت معها كل ما يسمّى إتفاقيات «السلام» من كمب ديفيد المشؤوم.. إلى موت مؤتمر مدريد للسلام أو كذبة السلام... إلى إتفاق إعلان «المبادئ» في أوسلو التي سقطت فيها كل المبادئ... إلى وادي عربة التي إنتهت في عربة الأحياء الأموات... إلى أوسلو المشبوهة والمشوهة التي تدحرجت مَن اللاشيء إلى اللاشيء... إلى اتفاقية (بروتوكول) باريس، أو كذبة البروتوكول الناظم للعلاقة الاقتصادية الفلسطينية ـ الإسرائيلية...

 

إلى كذبة إتفاق غزة ـ أريحا، أو إتفاق الخطوة الأولى لانسحاب إسرائيل من غزة وأريحا وتشكيل السلطة الفلسطينية وأجهزتها... إلى إتفاقية طابا (أوسلو الثانية)، أو «النكتة» الثانية.. أو الاتفاقية «الملعونة» التي قسّمت المناطق الفلسطينية إلى (أ) و(ب) و(ج) النكتة الملعونة التي نحفظها عن ظهر غيب لتحديد مناطق حكم السلطة والمناطق الخاضعة لإسرائيل وغير ذلك من تنكيت العهر السياسي الملعون...

 

إلى بروتوكول النكتة الأخرى.. أو إعادة الانتشار في (الخليل) بهدف إعادة إنتشار القوات الإسرائيلية في مدينة الخليل، وتقسيم المدينة إلى منطقتين: الخليل H1: تشكّل 80% من المساحة الكلية للمدينة تحت السيطرة الفلسطينية.. والخليل H2: التي تشكّل 20% من مساحة المدينة، تبقى تحت السيطرة الأمنية الإسرائيلية... إلى مذكرة واي ريفر (بلانتيشن) ما غيرها والتي تنص على اتخاذ تدابير أمنية لمكافحة «الإرهاب»، وتوطيد العلاقات الاقتصادية بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل، واستئناف مفاوضات الوضع النهائي. في كذبة اخرى...

 

إلى كذبة إتفاق واي ريفر الثاني، وتعديل وتوضيح بعض نقاط «واي ريفر الأولى» مثل إعادة الانتشار وإطلاق المعتقلين والممر الآمن وميناء غزة والترتيبات الأمنية وغير ذلك من كذبة دموية تلو الكذبة... إلى اتفاقية المعابر في 15 تشرين الثاني 2005، الاتفاقية التي تتعلق بالحركة والعبور للفلسطينيين وتحديداً في (قطاع غزة)، بهدف وكذبة «تحسين الوضع الاقتصادي». وشملت الاتفاقية (معبر رفح) الذي تمّ التوافق أن يكون فيه «طرف دولي»، كما تطرّقت للربط بين الضفة الغربية وقطاع غزة عبر تسهيل مرور البضائع، إلى جانب عدم تدخّل الإسرائيليين بعمل ميناء غزة التي دمّرها الإسرائيلي في أيامنا هذه حجراً فوق حجر..

 

ومن وإلى تلو إلى... إلى الازدواجية الغريبة، المستديمة على ما يبدو، لعلاقة تقوم على التهديد المتبادل، لكنها لا ترقى إلى مرحلة المواجهة المباشرة على مدار أكثر من ثلاثة عقود، تستحق بحق توصيفها بأنّها لغز غامض، كما وصّفها الأكاديمي الأميركي من أصل إيراني، تريتا بارزي، الخبير في السياسة الخارجية الأميركية، وأستاذ العلاقات الدولية في جامعة جون هوبكنز.

 

بارزي هذا، كان له مجهود استثنائي في محاولة سبر أغوار هذه العلاقة (الإيرانية ـ الإسرائيلية)، في محاولة لتقديم قراءة من خارج صندوق المتعارف عليه من القراءات السائدة في أوساط المحللين والمراقبين، الذين يفسرونها بصفتها نتيجة صرفة للخصومة الأيديولوجية (الدينية) عميقة الجذور بين الجانبين.

 

ففي كتابه الذي يعود إلى عام 2006، وعنوَنه بإسم «التحالف الغادر أو الخائن»، أو حسب الترجمة العربية «حلف المصالح المشتركة ـ التعاملات السرّية بين إسرائيل وإيران والولايات المتحدة»، يعتقد بارزي أنّ العداوة المستحكمة بين إيران وإسرائيل، اليوم، هي أكثر ارتباطاً بالتغيّرات في موازين القوى في الشرق الأوسط، وبالمنافسة الإستراتيجية بين الطرفين، منها، بالبعد الأيديولوجي ـ الديني الذي اعتمدته «الدولة الإيرانية» بعد الثورة الإسلامية عام 1979.

 

وعلى الرغم من أنّ الكتاب صدر قبل عقدٍ ونصف من اليوم، إلاّ أنّ خلاصاته المثيرة للاهتمام، مفيدة جداً لفهم كثير من التناقضات غير المفهومة في منطقتنا، من قبيل مثلًا، تلك الشراكة الغرائبية بين طهران وتل ابيب في الرغبة ببقاء (نظام الأسد) مستمراً في السلطة بدمشق، على الرغم من أنّه يساهم في إتاحة المجال لإيران في دعم ذراعها اللبناني ـ «حزب الله»، الذي يشكّل واحدًا من أبرز التهديدات للأمن القومي الإسرائيلي، وفق الخطاب المُصدّر للرأي العام، في تل ابيب!

 

 

نعم يا مستر توماس فريدمان، أو يا سيد من بلد «الحرّية» كما تصفون أنفسكم.. أخرجوا من الكتب القديمة والجديدة كما نادى احد شعرائنا على أشعيا: «أنادي أشعيا.. أخرجْ من الكتب القديمة مثلما خرجوا.. أزقة أورشليم تعلّق اللحم الفلسطيني فوق مطالع العهد القديم.. وتدّعي أنّ الضحية لم تغيّر جلدها... يا أشعيا لا ترثِ.. بل أهجُ المدينة كي أحبك مرتين».. نعم، أخرجوا من الخرائط المستجدة في الشرق الأوسط..

 

أخرجوا من الكتب الجديدة ونظرياتها غير المضبوطة يا سيّد فريدمان على إيقاع التاريخ وساعته الكونية في علم الزمان والمكان.. ساعة إيقاع الكينونة والصيرورة التي لا تخطئ ولا تنتهي ولا تتوقف عقاربها عن الحركة الزمكانية المستمرة... والعاقبة كما يُقال يا مستر فريدمان للمتقين... ولا الضالين آمين... رمضان مبارك يا أطفال غزة... صباح العزة يا غزة... صباح الأطفال (الذين يموتون خلف أعمارهم)... يا حامل وحي الغسق الغامض في الشرق على ظلمة أيامي... احمل لبلادي حين ينام الناس سلامي».

 

إنّ المتأمل في حياة فرناندو بيسوا صاحب كتاب «اللاطمأنينة» تكشف له عن معاناة حقيقية عاشها الشاعر وهو يتسكع في الشوارع أو وهو يطلّ على العالم من خلال نافذته في الطابق الرابع «ثمة شيء يغمني، قلق مجهول رغبة غير محدّدة في شيء غير محدّد، إحساسي بأنني حي ربما جاءني متأخّراً، وعندما أطللت من النافذة العالية جداً على الشارع الذي رأيته من دون أن اراه، أحسستني فجأة واحداً من الخرق الرطبة المخصصة لتنظيف أشياء متسخة توضع على النافذة لتجف، لكنها تُنسى ملفوفة على الجدار الذي تمضي ملطخة إياه ببطء»!

theme::common.loader_icon