اذا كانت مكافحة غسيل الاموال بمثابة عنوان عريض للزيارات المتتالية التي قام بها مسؤولون في وزارة الخزانة الاميركية الى بيروت على مَرّ السنوات، فقد أصبح معروفاً انّ الاميركيين يركّزون على ملف التبييض المرتبط بتمويل الارهاب. وفي الزيارة الاخيرة التي قام بها جيسي بيكر، نائب مساعد وزير الخزانة لشؤون آسيا والشرق الأوسط في مكتب تمويل الإرهاب والجرائم المالية الى بيروت، كان العنوان الرئيسي للمحادثات، حَجب التمويل عن «حماس».
منذ الانهيار في العام 2020، وبدء التحوّل نحو الاقتصاد النقدي (cash economy)، كثّفت واشنطن رقابتها على حركة الاموال التي تمر عبر بيروت. وقبل الانهيار، كانت تركّز على القيام برقابة لصيقة على الحركة المالية عبر القطاع المصرفي اللبناني. وسبق أن فرضت عقوبات على مصارف لبنانية، أدّت الى اختفائها. وانتقلت هذه الرقابة من المصارف الى مؤسسات الصيرفة وشركات تحويل الاموال. واللافت في السلوك الاميركي، التركيز على التبييض المتعلق بتمويل الارهاب، مقابل اكتراثٍ أقل بالتبييض الناجم عن تجارة المخدرات او الفساد، إلا اذا كان ذلك يرتبط بطريقة غير مباشرة بتمويل الارهاب.
ولعلّ النموذج النافر في هذا السياق، هو التعاطي «السلس» مع القرار الذي اتخذه مصرف لبنان في ولاية رياض سلامة، لجهة إجراء المقاصّة على شيكات الدولار في بيروت، من دون الحاجة الى المرور في نيويورك. يومها، اعتقد الكثيرون انّ سلامة تمرّد على الاميركيين، وجازَفَ باتخاذ هذا القرار الذي قد تتصدّى له واشنطن، انطلاقاً من انه يُضعف قدرتها على ممارسة الرقابة على حركة مقاصة الدولارات، ليتبيّن لاحقاً ان سلامة أخذ موافقة اميركية مسبقة على الخطوة. وقد فسّر كثيرون هذا التسامح الاميركي بملف حساس يتعلق بالتبييض، بأنّ واشنطن غضّت النظر عن هذا السلوك، لأنها ضمنت ان تبقى الدولارات المتداولة في البلد، ولا يتم نقلها الى الخارج. بمعنى آخر، سمحت واشنطن بأن يستفيد الاقتصاد من بعض الاوكسيجين، ما دام الامر لا يرتقي الى مستوى تمويل الحركات الارهابية.
هذا النهج الاميركي في التعاطي مع ملفات غسيل الاموال، اطّلع عليه حاكم مصرف لبنان بالانابة وسيم منصوري، عندما اجرى محادثات في واشنطن قبَيل تسلّمه مهام الحاكمية. وبات الرجل يعرف اين يمكن غضّ النظر، واين توجد خطوط حمراء ممنوع تجاوزها. يومها أخذ الاميركيون تعهّداً من منصوري بالتعاطي الايجابي مع هذه المسلمات الاميركية. وتبلّغ منصوري ايضاً، بالملاحظات الاميركية في شأن الحركة المالية عبر الصرافين الشرعيين وغير الشرعيين، بالاضافة الى ضرورة ضبط الحركة المالية لدى شركات تحويل الاموال.
وفي زيارات سابقة، قام بها مسؤولون في الخزانة الاميركية، وقبل تسلّم منصوري مهامه، ركّز الاميركيون على حركة الاموال التي تُستخدم لتمويل «حزب الله»، ومن ضمنها «القرض الحسن»، من دون أن يتوصّلوا الى نتائج حاسمة في هذا الملف.
اليوم، عاد الاميركيون بعنوان واضح: جزء كبير من تمويل حركة حماس المصنّفة إرهابية في اللوائح الاميركية، يتمّ عبر مؤسسات وأشخاص يتمركزون في بيروت، وبالتعاون مع اشخاص ومؤسسات تابعة لـ«حزب الله». إذ انّ دور الحزب في هذا الملف محوري، وهو يشكّل حلقة رئيسية في حركات التمويل التي يقودها «فيلق القدس» التابع للحرس الثوري الايراني.
وليس صحيحاً انّ معظم عمليات التمويل تمر عبر مؤسسات صرافة او شركات تحويل اموال غير شرعية، وبالتالي يصعب ضبطها ومراقبتها. المعلومات التي حملها مسؤول الخزانة، تفيد انّ التمويل يمر في قسم منه عبر مؤسسات شرعية. وهذا ما يفسّر عقد الاجتماع الطارئ بين منصوري ومؤسسات الصرافة فئة اولى في لبنان. وسبق للأميركيين أن فَرضوا عقوبات على واحدة من اكبر مؤسسات الصرافة التي يملكها آل شومان. وكانت التهمة المساهمة في تسهيل تمويل حماس، حيث ذكر الاتهام الاميركي انّ «حماس» تستخدم شركة نبيل شومان للصرافة ومقرّها لبنان لتحويل الأموال من إيران إلى غزة. وانّ «الشركة كانت لسنوات بمثابة قناة لتحويل الأموال إلى حماس، حيث قامت بتحويل عشرات الملايين من الدولارات إلى المنظمة الإرهابية».
من هنا، طلب مسؤول الخزانة الاميركية من مصرف لبنان ان يشدّد الرقابة اليوم على كل مؤسسات الصرافة وشركات تحويل الاموال الشرعية وغير الشرعية، وأن يعتمد نهجا جديدا في الرقابة الصارمة على كل هذه المؤسسات. وستتابع الخزانة الاميركية في المرحلة المقبلة الاجراءات الجديدة التي تم اتخاذها، وسيتم تقييم النتائج بعد فترة، حيث من المتوقّع ان يتجدد التواصل بين الخزانة ومصرف لبنان، لتحديد النتائج، والاتفاق على خطوات اضافية اذا اقتضى الامر.