القلم الأبيض !
القلم الأبيض !
محمود القيسي
Monday, 26-Feb-2024 06:57

«حبيبتي...
أشم زنديك العروسين
وعقم الليل في فراشنا
والهمس
أنا أرى باللمس
ما عاد غير اللمس...»
*مظفر النواب

نحن من الشعوب التي تستحق الشفقة... والتاريخ هو أحسن معلم... نحن من الشعوب التي حكامها ومثقفيها ونخبها مصابة بمرض «الميكروفونيا» الذي لا علاج له. من الشعوب التي تتعاطى أفيون الكلام في الميكروفونات والمقاهي والملاهي والكنائس والمساجد وأمام العدسات وتحريك اليدين باستمرار وتكرار... حتى في أفلام الذكاء الاصطناعي لم يكن في إمكانهم تقليدنا في تحريك اليدين بطريقة تامة عن الوعي والمعرفة الزائفة... نحن من الشعوب التي أوجدت دراسات عليا للكذب... الّا أنّه قد غاب عن بالها أنّه توجد حدود لكل شيءٍ.... أوليس هذه هي الحقيقة بعينها؟؟.. نحن للأسف من الشعوب التي تقتل بعضها البعض دون إحم أو دستور... نقتل ونستبيح دماء بعضنا البعض ساعةً بحجة موروث من هنا وساعةً بحجة موروث من هناك عفى عليه الزمن ومضى بعيدًا بعيداً... شعوب تقتل وتُقتل من أجل اللاشيء وكل شيء... شعوب عفى عليها الزمن وغادر... شعوب لم تتعلّم من عدوها.. ولم تتعلّم من صديقها... شعوب لم تتعلم من العدو الصديق.. والصديق العدو.... شعوب تعتقد انّ التاريخ مضيعة للوقت... والجغرافيا ليست سوى مادة في المدارس الحكومية – المرحلة الابتدائية فقط!
نعم، نحن من الشعوب التي يكذب فيها الناس على أنفسهم.. تقول في أسوأ أوضاع لها... لا بأس تموت فيها الشمس... قلبي وعيني على الألف والياء والنون اين أنتِ أيتها الأحرف العربية... فالجيم والهاء أحرف عجيبة... في حين التاريخ والجغرافيا... الزمان والمكان... الكينونة والصيرورة... تعطينا الكثير من الدروس ولكن بعضنا لا يريد أن يتعلّم... بل، يتمتع وهو يتناول نَفَس النرجيلة كي يطير الدخان ويتطاير، ويكرّر نفس أخطاء الأمس... وأخطاء من سبقوه.... تنازع جنكيزخان وصديقه وتحاربا، انهزم صديق جنكيز خان وهرب. قام اثنان من أعوان الرجل الهارب باعتقال الصديق وإحضاره طالبين مكافأة على رأسه. الّا أنّ جنكيز خان الذي كان يكره الخيانة قام بقتلهما وفكّ قيد صديقه وطلب منه أن يشاركه الملك. طلب منه الصديق أن ينظر الى السماء وأشار إلى القمر قائلًا: ليس من الإمكان أن يكون في السماء قمران. أرجو أن تقتلني من دون سفك دمي. أكسر ظهري فقط. القادة القادة لا يُسفك دمهم عند المغول ولهذا لفوا الخليفة العباسي المستعصم بالله في بساط وداسوا عليه بالخيل إلى أن مات. من الذي سيكون على ظهر الحصان؟ ومن الذي سيكون ملفوفًا في البساط؟؟
في بعض الأحيان كما يقول نيتشه، لا يرغب الناس في سماع الحقيقة لأنّهم لا يريدون أن تتحطّم أوهامهم... ويضيف، لا يمكن لأحد أن يبني لك الجسر الذي تعبر منه لتغيّر مجرى حياتك، لا أحد يمكنه ذلك سواك أنت... ويستطرد قائلًا: كنتُ في الظلام، لكني خطوتُ ثلاث خطوات ووجدتُ نفسي في الجنة. الخطوة الأولى كانت «فكرة» جيدة، والثانية «كلمة» جيدة والثالثة «عملاً» جيّدًا... نحن من الشعوب التي ترفض ان تسمع الحقيقة... المئة عام الأخيرة على سبيل المثال وليس الحصر كي لا نذهب بعيداً بعيداً ونحن ندفع فواتير الآخرين على أرضنا من لحمنا وعظمنا ودمنا... ندفع من ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا.... ويخيّل إلينا اننا نسير خطوات إلى الامام... في حين، أو في حقيقة الامر نعود إلى الوراء والورى... من مؤامرة «سايكس بيكو» التي قسّمت المقسّم في الشرق الأوسط إلى دول قزمية مفتعلة... خرائط رسمتها بريطانيا وفرنسا في خضم الحرب العالمية الأولى. واكثر ما يُضحك ويُبكي أشباه أو أنصاف المثقفين الذين لا يعتقدون في نظرية المؤامرة لا من قريب ولا من بعيد!
هذا دون أن يغيب عن وعي تلك النخب التي لا تؤمن بنظرية المؤامرة .. «وعد بلفور»، الذي أعطى فيه من لا يملك لمن لا يستحق، والذي تمّ التوافق عليه ودعمه من أقطاب رأس المال الغربي والقيمة الزائدة المسروقة من قوة عمل الشعوب.. المؤامرة التي غيّرت وجه الشرق الأوسط في نهاية 1897، وبعد أكثر من عام من صدور كتابه “دولة اليهود”، نظّم الصحافي والكاتب «تيودور هرتزل» في بال بسويسرا أول مؤتمر صهيوني شارك فيه نحو 200 مندوب قَدموا من شرق اوروبا وخصوصًا من روسيا. وأعلن المجتمعون في مؤتمرهم إّن “الصهيونية تطمح إلى تأسيس موطن للشعب اليهودي في فلسطين يضمنه القانون العام”. وفي تشرين الثاني 1947، اعتمدت الأمم المتحدة قرار تقسيم فلسطين إلى دولتين: واحدة فلسطينية واخرى يهودية مع وضع القدس تحت الإشراف الدولي. في 14 أيار 1948، أعلن ديفيد بن غوريون إقامة دولة إسرائيل مع انتهاء الانتداب البريطاني لفلسطين. وعلى الرغم من نص قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة إلى دولتين مناصفة، فإنّ إسرائيل تقوم اليوم على أكثر من 70% من أرض فلسطين التاريخية وتسيطر على البقية بالاحتلال كذلك، وما زال المشروع الإستيطاني الاحتلالي يمثل النقطة الأولى لمعاناة الشعب الفلسطيني، من تهجير وقتل وتنكيل ومجازر بشعة أسفرت عن استشهاد آلاف الفلسطينيين.
تعتقد، وتسوّق بعض «الانتليجنسيا» الغربية المعروف مشغلّيها سلفًا: «إنّ نظرية المؤامرة من السمات السائدة عند العرب»، حيث تتجلّى بوضوح في ثقافتهم وسياساتهم بخاصة موضوع «معاداة الصهيونية» في العالم العربي. وتوحي تلك النخب أنّ نظرية المؤامرة عبارة عن «ظاهرة شائعة وشعبية، فالإيمان بنظريات المؤامرة هي ظاهرة مهمّة لفهم السياسة العربية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ...» ويقول الكاتب والمحلل روجر كوهين: «إنّ نظريات المؤامرة في العالم العربي هي ملجأ الضعفاء في نهاية المطاف». كما أستغلت ووظفت تلك النخب الغربية العدوان الثلاثي الفرنسي-الإسرائيلي-البريطاني عام 1956 على مصر -التي كانت حينذاك أبرز دولة عربية- في تشجيع نظرية المؤامرة وخلق تصورات ومضاربات أخرى حول هذه النظرية. بعد حرب 1967، أصبحت نظرية المؤامرة تحظى بشعبية داخل الأوساط العربية؛ فالحرب كان يُنظر إليها على أنّها مؤامرة من قِبل إسرائيل والولايات المتحدة—أو نقيضه: مؤامرة من الاتحاد السوفياتي لضّم مصر إلى النفوذ الشيوعي. يُؤكّد توماس فريدمان أنّ نظريات المؤامرات تعززت إبان الحرب الأهلية اللبنانية؛ حيث يُؤكّد: «كانت [نظرية المؤامرة] عادة غير قابلة للتصديق... فالإسرائيليون، السوريون، الأميركيون، السوفييت، أو حتى هنري كيسنجر لم يكن يصدّق هذه النظريات باستثناء اللبنانيين الذين يرون أنّ هناك مؤامرة كان الهدف من ورائها تعطيل لبنان. في حين غاب عن بال فريدمان انّ أصغر طفل في عالم ما يسمّى «العالم الثالث» يعلم علم اليقين إلف باء نظرية المؤامرة ومُشغليها في بلاده تاريخيًا.. والعتب يبقى على [النخب] الكاذبة والمنحازة... غربية كانت ام شرقية.
يقول عالم النفس السويسري ومؤسس علم النفس التحليلي كارل غوستاف يونغ: «الخطر الحقيقي هو الانسان.. هو الانسان نفسه لأنّه الخطر الحقيقي الموجود.. نحتاح إلى مزيد من الفهم للطبيعة البشرية.. نحن بحاجة إلى مزيد من علم النفس لأننا اصل كل الشرور... يجب دراسة نفسيته.. القليل جداً لأننا لا نعرف شيئًا عن الانسان ونحن نجهل ذلك بشكل يدعو للشفقة... إنّه الخطر العظيم». بعدما عمّت التظاهرات عام 1979 شتى ربوع إيران، وصل رجل الدين الشيعي الإيراني روح الله الخميني إلى طهران قادمًا من فرنسا على متن إحدى طائرات Air France التي أقلّته «مجانًا» وجميع رجاله ومساعديه ومرافقيه... مباشرة بعد مغادرة الشاه «الأخير» محمد رضا بهلوي العاصمة الإيرانية طهران إلى «المجهول»... وبداية ما يسمّى نظام «ولاية الفقيه»... أو نظام «المجهول الآخر» التي دخلت فيه منطقة الشرق الأوسط.. مرحلة أخرى لا تقلّ سوداوية عن المراحل الاخرى التي سبقتها خلال تلك المئة عام من العزلة... ومن الخليج الى المحيط.. ومن المحيط إلى الخليج كانت [نظريات المؤامرة] تعدّ الحروب والجنازات... وتفبرك الساحات والألوية على مدار أكثر من 40 عاماً والحبل ما زال على الجرار حتى أيامنا هذه... الحبل على جرار الحروب والساحات والشعارات التي تخدم [ولاية الفقيه] وشركاءه من الشيطان الاصغر الى الشيطان الاكبر والشعار الاستهلاكي الأشهر «الموت لأمريكا»...!
الشعارات الشعبوية والموت الذي في حقيقة الأمر لم يتوقف في البلاد العربية وبعض ساحاتها المفتوحة لمصلحة وحساب النظام الإيراني دون أي حرب مباشرة بين الاميركيين والايرانيين تذكر.. أو لا تذكر... دون أي حرب مباشرة بين الإيرانيين والإسرائيليين خلال الأربعين سنة الماضية وحتى تاريخه.. أو بعد تاريخه.. أو بعد بعد تاريخه... نعم، لم تقع سوى حروب الوكالات الحصرية المضبوطة على إيقاع توقيت [التحالف الغادر] وساعته التي لا تخطئ... على توقيت الساعة التي أصبح يعرفها القاصي والداني... الكبير والصغير... والمقمط في السرير.... والتي لا تخدم سوى مصلحة حياكي غرز السجاد العجمي.. ومُعدّي الهمبرغر.. وطباخين الكوشر في مفاوضاتهما الماراثونية لإضاعة الوقت في 5+1 و 4+1 على أنغام موسيقى ليالي الأنس في فيينا والحبل على جرار مصالحهم في الشرق الأوسط «الجديد» في مجاز لم يعد مبهماً أو عصياً على الفهم... هذا ناهيكم عن بعض الدول العربية المغلوب على أمرها... والتي تحولت إلى مطية وضحية للإيرانيين واحزابهم وميليشياتهم وصواريخهم التي لم تصل بعد 40 عامًا من صراع الميكروفونات والتهديد والوعيد إلى مجرد مدينة حيفا!... اذكر انني عندما كنت صغيرًا، كان ابي كلما اشترى لي علبة ألوان خشبية، أستعمل كل الألوان التي فيها، ما عدا اللون الأبيض لإنّه كان في نظري لا فائدة منه، ولا يظهر تلوينه على الورق الابيض... عندما كبرت، أدركت قيمة هذا اللون الأبيض، أنّه لون طموح الإنسانية نحو الصفاء والنقاء والحرّية والسلام، حتى وإن ظننا إنّ هذه الصفات لا تلون حياتنا في هذه الأيام السوداء.... فهذا لأننا لا نبصر ذلك وندَّعي بأنّها غير موجودة، ولكنها في حقيقة الامر موجودة في حياتنا وبدرجة عالية جدًا فقط إن نظرنا بتمعن حولنا.. تمامًا مثل لون القلم الأبيض على ورقة بيضاء...!

theme::common.loader_icon