رئاسة الجمهورية، التمديد لقائد الجيش العماد جوزف عون، تبريد الجبهة الجنوبية. ملفات ثلاثة أثارها جان ايف لودريان في زيارته الاخيرة للبنان.
يبدو انّ لودريان حضر في زيارته إلى بيروت على عجل، ولم يتسنّ له الوقت الكافي لكي يجلب معه لا مفتاح الباب الرئاسي، ولا شيفرة تفكيك صواعق العبوة الناسفة المزروعة على الحدود، ولا كاسحة النكايات والمطبات الماثلة في طريق التمديد لقائد الجيش.
حضر لودريان وغادر من دون أن يحقق ما أراده، فلا استطاع أن يحرّك الملف الرئاسي قيد أنملة الى الامام، ولا استطاع أن يُخرج جبهة الجنوب من ارتباطها بالحرب الدائرة في غزة، ولا تمكّن من أن يسحب التمديد لقائد الجيش من الرمال السياسية المتحركة والاعتبارات والنكايات الشخصية المانعة له. أهمّ ما عاد به لودريان الى باريس هي تلك المرافعة الهجومية المطوّلة التي أُلقيت على مسمعه حول دور فرنسا وانحيازها الى اسرائيل في حرب الإبادة الجماعية التي تشنها على غزة، والتي انتهت الى سؤال: هل هذه هي فرنسا التي نعهدها بالدفاع عن حقوق الانسان؟ وهل هذه هي فرنسا التي نعهدها بلد الحريات تلاحق كل صوت يندّد بجرائم اسرائيل في غزة ولا يساند عدوانها»؟
المشهد اللبناني ما بعد زيارة لودريان هو نفسه ما قبلها، لم يتغيّر شيء؛ مشهد ثابت على الخط الأعرج، تتجاذبه مجموعة ملفات خلافية شائكة ومستعصية، واصطفافات سياسية تنتشي بالبحث بلا كلل عمّا يعمّق الإنقسام الداخلي أكثر فأكثر، ورهانات على ظروف ومتغيّرات وتحوّلات خارجية، لتقريشها وصرفها في بنك المصالح والمكاسب الفئوية والكيديات والنكايات السياسية والشخصية.
هذا المشهد موزّع حالياً على ثلاث جبهات: في الأولى، لا مكان الآن لرئاسة الجمهورية على الطاولة الداخلية، وأصحاب الحلّ والرّبط، وحتى اولئك المتباكون عليها، مُسَلّمون بذلك، ويقاربونها عرضاً كملف ثانوي، فثمة قناعة لدى مختلف اللاعبين على الحلبة الرئاسية بأنّ رئاسة الجمهورية في لبنان خارج الرادار الدولي في هذه المرحلة، بل لا يُرى بالعين المجرّدة في سلم الاولويّات الدولية، وعلى ما يُقال في المجالس السياسية فإنّ حركة الموفدين سواء أكانوا قطريين او فرنسيين أو غيرهم، لا تعدو أكثر من «تِسلاية» وتقطيع وقت، لأنّ تطورات المنطقة سبقت الرئاسة ورَحّلتها الى ما بعد غزة وربما الى ما بعد بعد غزة. وبالتالي، فإنّ دعوة الموفد الفرنسي إلى التعجيل بانتخاب الرئيس فُسّرت على أنّها تسجيل موقف لا أكثر، وتذكير بأنّ لفرنسا دوراً وحضوراً في لبنان الآن وفي المستقبل.
وعلى الجبهة الثانية، يتموضع ملف قيادة الجيش الذي يبدو انّه أصبح أكثر تعقيدا، وعالقا بين مجموعة جبهات متنافرة، بعضها متحمّس للتمديد لقائد الجيش، وبعضها الآخر ما زال يُحاذر او يتهيّب مقاربة هذه الكأس او تعيين قائد جديد.
المعلومات الموثوقة تؤكد أن الحكومة التي أُعطيت مهلة حسم التمديد لقائد الجيش او تعيين قائد جديد حتى نهاية تشرين الثاني الماضي، أعطيت مهلة ايّام اضافية لحسم هذا الأمر كونها هي صاحبة الصلاحيّة وتستطيع أن تمدّد وتعيّن وفق الأصول، وفي يدها أن تنهي هذه المشكلة، لا أن تُرمى هذه المشكلة على المجلس النيابي الذي لا صلاحية له في أن ينوب عن الحكومة في إجراء يَعنيها ومن اختصاصها.
واذا كان ثمة من يلفت الى أن رئيس الحكومة سحب يده من هذا الملف، فثمة في المقابل من يعتبر ان الحكومة إن لم تبادر الى اتخاذ قرار في شأن التمديد او التعيين قبل نهاية الاسبوع الجاري، فذلك انها تتخلى عن صلاحياتها، وهذا يعني ان مشكلة كبيرة ستحصل.
يستنتج من هذا الكلام أنّ طريق التمديد أو التعيين ميسّرة حكوميّاً، ولكنّها معسّرة حتّى الآن مجلسيّاً. والجلسة التشريعية التي قيل انها ستعقد، قد تعقد او لا تعقد، قد تعقد ربطاً بما ستقرره الحكومة بهذا الملف، ولكن إن عقدت فثمة مشكلة كبرى منتظرة فيها، فمساحة المعترضين كبيرة، وكذلك مساحة المُمتنعين عن التصويت، وثمة تحالفات سياسية توجِب أن تتناغم مع بعضها البعض، وتنخرط في تصويت واحد، سواء بالرفض او التأييد او الامتناع عن التصويت.
يُضاف الى ذلك أن ثمة اصواتاً نيابية وسياسيّة مسؤولة بدأت تتعالى بالتأكيد على أنّ هذا الأمر من صلاحيّة الحكومة حصراً، وتقول صراحة: كيف يمكن ان نشرّع أصلاً، على نحو ما تريد «القوات اللبنانية» وبحسب رغباتها ووفق ما تقدره مصلحة لها، علماً انّ «القوات» كانت السبّاقة في اعتبار المجلس النيابي هيئة ناخبة في غياب رئيس الجمهورية ولا يحق له التشريع؟ وكيف يمكن أن نشرّع ما يصرّ عليه الأميركيون والفرنسيون ونُقدّم سابقة الرضوح والانصياع الى ما يريده الخارج؟ وماذا يبقى من المجلس النيابي اذا بَدا وكأنه جاهز لأن يشرّع غبّ الطلب وفقاً لرغبات خارجية؟
هذه الأجواء، يبدو أنها بلغت إحدى سفارات الدول الكبرى، فعلّقَ واحد من كبار الموظفين فيها قائلاً في مجلس خاص ما مفاده: «ربما نكون قد أخطأنا في كشف أوراقنا، وإظهار حجم اهتمامنا بالتمديد لقائد الجيش».
وأمّا جبهة الجنوب، فحتى الآن، يمكن القول انّ صورة ما ستؤول اليها، ما زالت رمادية انما مع ميل ملحوظ الى السواد، حيث أن كرة النار المتدحرجة عليها تؤشّر الى أنّها تقترب من أن تخرج عن السيطرة، والدعوات التي تتوالى من كلّ الاتجاهات الدوليّة إلى ضبط النفس وتجنّب الإنجرار إلى حرب باتت بلا أي معنى، حيث أنّ تطورات الميدان العسكري سبقتها، والحرب الحقيقية الدائرة على امتداد هذه الجبهة من الناقورة الى مزارع شبعا وجبل الشيخ، ووتيرتها التي تصاعدت بشكل ملحوظ في الآونة الأخيرة بدأت تُنذر باتساعها وفقدان ضوابطها وخروج العمليات العسكرية من الجانبين على ما تسمّى قواعد الاشتباك.
أخطر ما في هذه الجبهة أنها حوّلت المنطقة المحاذية للحدود الى ما يشبه حزاما امنيا مسيطرا عليه بالنار، وشبه خال من السكان، وأنها تمدّدت سياسيا الى الداخل، ودخلت مادة اضافية الى مستودع المسائل الخلافية الداخلية المتراكمة التي لا إجماع عليها. وفرزت الواقع اللبناني بين متضامن مع «حزب الله» ومبارك لعملياته ضد الجيش الاسرائيلي ونصرة للمقاومة الفلسطينية في غزة، وبين رافض لهذه الحرب أيّاً كانت مبرراتها ومسوغاتها، وداع الى الانصياع لمندرجات القرار 1701، محمّلاً الحزب مسؤوليّة اللعب بمصير لبنان، والمجازفة بجَرّه الى حرب تدميرية له. ويتصدّر هذه الحملة على «حزب الله»، حزب «القوات اللبنانية» و«حزب الكتائب» إضافة الى حلفائهما في الخط السيادي.
وهذا الفرز الداخلي آخذ في التفاعل الى ما هو أخطر، حيث أنه بدأ منذ الآن يرسم معالم اشتباك داخلي لاحق، مَحفوف بمخاطر كبرى عنوانها القرار 1701، وممهدات هذا الاشتباك بدأت تتجلى في ارتفاع بعض الأصوات بالدعوة الى تطبيق هذا القرار وانسحاب «حزب الله» من المنطقة الحدودية، توازيها دعوات خارجية مماثلة مصحوبة بتسريبات عن نقاشات في اروقة دولية حول القرار 1701، وتوجهات جدية لدى بعض الدول الكبرى الى تطويره على نحو يعدّل جذرياً مهام قوات «اليونيفيل» العاملة في الجنوب، ويمنحها حرية حركة اكبر كقوات قتالية في منطقة عملها، التي يفترض أن تكون خالية من المسلحين. وهذا يتناغم مع ما بدأت تثيره اسرائيل من مخاوف على مستوطني الشمال، وصعوبة إعادتهم الى المستوطنات في ظل وجود «حزب الله» على الجبهة المقابلة. وخشية أن يكرّر الحزب مع ما تسمّيها اسرائيل مستوطنات الشمال سيناريو 7 تشرين الاول وهجوم حركة «حماس» على مستوطنات غلاف غزة.
عندما يُسأل أحد المسؤولين عن صحة ما يتردّد حول القرار 1701، يجيب بلا تردّد: لسنا قلقين على هذا القرار، فهو موجود ولا يحتاج إلى تعديلات لمندرجاته، بل الى تطبيقه لا أكثر ولا أقل. ولكن لا ينبغي إغفال حقيقة أن إثارة موضوع القرار 1701 في هذا التوقيت مريبة، وهذه النغمة تزايدت مع ما يتردّد عن مؤتمر دولي سيَلي الحرب الاسرائيليّة على قطاع غزة، لوضع ترتيبات جديدة للمنطقة بدءاً من غزة وصولاً الى لبنان. فبمعزل عمّا إذا كان هذا المؤتمر سيحصل أو لا، فإنّ البعض في الداخل حسموا مُسبقاً انكسار «حماس» في هذه الحرب، وانكسار «حماس» يعني بالنسبة اليهم أنّ «حزب الله» سيُحشر. لا بل سيُضعف ويُجعَل وحيداً في وجه العاصفة وسيكون معرّضاً للضغوط عليه من كل جانب داخلي وخارجي، فبَكّروا في إظهار من يختزنونه من مشاعر ضد الحزب، وتمنيات ورغبات في كسره وتحجيم دوره. قالوا صراحة للموفدين إنّ «حزب الله» يشكل عامل التوتر في المنطقة، والعائق امام قيام الدولة في لبنان، واقترحوا ما افترضوا أنه سيُقترح لاحقاً، كحلّ لمنطقة الجنوب، بسحب «حزب الله» من منطقة الحدود، وجعل هذه المنطقة منزوعة السلاح. واعتقد أننا سنسمع هذه المعزوفة كثيرا في الآتي من الايام... خلاصة القول هنا انه في كلّ محطة يثبت هؤلاء أنّهم محترفون في القراءات الخاطئة والتقديرات المتسرّعة والرهان على أوهام وأحلام.