تتحيّنُ الكاتبة أملي نصر الله فلولَ الذكريات التي تناقصت مع غياب وجوه أصحابها، لتستوحي انطباعاتها من القرية التي آوَت أطيار الغربة وأحجار الحنين، وتعيدُ تنسيق بُسُطها الطائرة نحو اللامرئيّ، لتثقب بعينٍ منبهرة ما توارى وراء الجدران التي تسلّق عليها لبلابُ الزمن.
في كتابها «الينبوع»، والذي يضمّ قصصاً قصيرة مُنمّقة بأناملِ الدهرِ المحكي، تلجأ نصر الله للرموز الإيحائيّة لتسلكَ من خلالها إلى لبّ المعنى، فمن حكاية الينبوع، إلى قصّة تستعينُ فيها بخيمياء الحرف المظلّلة بكسوة المطر، تظهر فيها سيّدة مترفة تعيش القحط النفسيّ رغم الرخاء الباهظ الذي يحيط بها، فتتعطّش لعودة المطر الذي تأخّر كثيراً، وتزحف بفكرها نحو التناسي من خلال ارتيادها المقهى وانخراطها في الانشغالات اليوميّة، ولكنّ التوق لا يبارح فسحة اللاوعي في داخلها، فهي تحتاج إلى شاكلةٍ لمّاحة للحياة بعيداً عن الركود، والمطر هو رمزُ التدفّق الحي، لتجدَ ضالّتها في الصلاة على مذبح الغفران، حيث تنزعُ عنها حليّها الثمينة مادّياً، لتجنحَ للطائر الذي يرفرفُ على أكتافها مُبتهلاً لله الذي لا يقّدر بأثمان، وإذ بالمطر ينهمرُ متمرّداً على انحباسه، يشبه انبجاسَ الماء عن الصخر الأمرد.
وفي قصّة أخرى، تكتمُ نصر الله أنفاسَ اللامبالاة بهبوب الذكرى، حين تصوّر لنا مشاهد من حكاية عاطفيّة مؤلمة، ورجل يلتقي صدفة بابنة محبوبته في القرية التي جَمعتهما يوماً قبل زواجها من رجلٍ آخر وسفرها إلى الخارج، وقد حملت بين ذراعيها طفلاً يحمل اسمه، وكأنّ حبيبته السابقة قد وجّهت له صفعة في قلبه، فهي تخلّد ذكراه رغم جفائه وتخلّيه عنها، بمفهوميّة فرويديّة (نسبة إلى فرويد) تجرّ عليه وبال عقدة الذنب، فقد خيّرته بين الزواج منها أو الافتراق عنها، ولأنّ الدراسة كانت مُبتغاه الأوّل وتشجيع أمّه له كي يتناسى موضوع عشقه الزائل، دفعه لنكرانها. وها هو يثب حيّاً بين ذراعي ابنتها وقد دبّت الحياة التي منحها اسمه إلى الطفل، كأنّها تناديه، إنّه الانتقام المرّ الراقي، الذي يدرّه الألم المختبئ بين طيّات الجروح.
ثمّ تصف نصر الله حكاية امرأة قرويّة هجرها حبيبها بعد أن سلّمت بالبقاء معه أمد النبض، فقد اندمجا في قلبٍ واحد، ينكآن جراحهما ويستدعيان أفراحهما من دون توانٍ، ولكنّ فأس الفراق أهوى على هيكل الحبّ المقدّس، فخنق أنفاس الحبّ من قلب حبيبها وزرع فيه الجفاء فانهار في حشرجةٍ مميتة للروح، وخلّفها زهرة يابسة في دوح اليأس، فمدّت يدها تمدّ بالماء أزهار حديقتها، وتحلم بالحبّ المقهور الذي لطمته عاصفة النسيان، وتشحبُ مع آخر ضوءٍ للنهار مؤمنة بأنّ الحبّ هو عصب الكون.
تشرقُ كاتبة رواية «طيور أيلول» في كتابها «الينبوع» لتبطلَ نقائض الأنثى بروحانيّة ثائرة وخائرة، فهي تتمرّد على التقاليد ولكنّها تضعف أمام هيبة الحب الوشيك، مثل لوحات «مونيه» التي تتّسِم بالتأمّل المجزوم للطبيعة الخالدة في نوعٍ من الغموض الأخّاذ، وتستأنف حنينها بين أذرع الشجر وتعرّجات الأنهار وترسّبات الطمي، فتطعّم احساسها الملتهب بجوانب صوفيّة وفلسفيّة تزدري البقاء الذي لا يدوم.
املي نصر الله في كتابها «الينبوع» تصطخب معه وترتحل مُضطجعة على العشب الندي، تقترب من البوح فيه أكثر من دنوّها من عالم السرد، لتدندن بحكايات غابرة عايَشتها أو سمعتها أو ربّما ابتكرت بعضها في رحلتها الوجدانيّة الخالدة نحو أجواء القرية.