أين أصدقاء أدونيس ومعجبُوه الكبار في بيروت؟
أين أصدقاء أدونيس ومعجبُوه الكبار في بيروت؟
عبد الغني طليس
Saturday, 14-Oct-2023 07:17

لم يكن الحوار في «ملتقى خيرات الزين الثقافي» الجديد في بيروت بينه وبين الحاضرين مُعَبّراً عن إشكاليات ثقافية معقّدة أو صعبة. كأنما كانت الأسئلة والأجوبة دردشة سريعة لا الذين سألوها كانوا يريدون فتح نقاش جَدي وعميق معه بل مَلء الوقت، ولا هو كان مستعدّاً لأجوبة تختلف عما قدّمه في عشرات اللقاءات مع الجمهور. ومع أنّ ثمة حيوية كانت ظاهرة في وجوه الحاضرين السعداء بوجودهم مع أدونيس، وفي وجه أدونيس نفسِه، فقد بقي النقاش محدوداً ولم يستدرج إليه شُعراء أو روائيين أو نقّاداً كانوا بين الحضور ويُفترَض أن لديهم ما يطرحونه على الشاعر من قديم المواضيع التي تتجدد أو من جديدها.

 

قضيّتان كان ينبغي أن تحضُرا في اللقاء: شِعر أدونيس بعد ستين عاماً من اندلاعِه، وكيف تقدّمَ، وأين أصبح؟ (أسئلة تريد إجابات جديدة بعدما ركدَت زمناً) وهل لديه شِعر يقولُه بعد قد يختلف شكلاً أو مضموناً مع دواوينه السابقة؟ ومن جهة ثانية: ما هي علاقته بالجمهور (أيضاً تريد إجابات جديدة راكدة منذ زمن) وهل جمهور الشّعر في الخمسينات من القرن الماضي هو نفسُه جمهور الشّعر اليوم؟ ماذا تغيّر وكيف تغيّر؟ وهل غادر الشّعر مكانه إلى الأمام ؟ وهل غادر الجمهور مكانه أيضاً ؟... كلّها أسئلة لا تكف عن طرح نفسها منذ ثمانين عاماً على الأقلّ مع بدر شاكر السيّاب ونازك الملائكة. وأدونيس الذي اعتاد أن يَصعَق المحاورين ببعض الجُمل الثقافية حول التخطّي والتجاوُز، وبتحريك بعض الالْتماعات في أجوبته هل ما زال يرددُ تلك الأفكار كمؤبَّدَ لا يتزحزح مع بعض التعديلات اللفظية التي لا تشفي متعطّشاً لمعرفةٍ، أم تكوّنت لديه رؤى أُخرى وأفكار ابنة الراهن المصاب بحَبَلٍ عجيب غريب لا يُعرَف فيه الأب من الأم من عابر الطريق!

 

قد يقول قائل إنّي أحاول أن أعطي اللقاء الذي حصل في بيروت مع بعض الناس الذين يلتقون على محبة الشاعر أو صداقته، أبعاداً ليست من صلبه أو من طبيعته لأن اللقاء عفوي ومع مجموعة متنوعة المشارب والاهتمامات والمستويات الفكرية وليست أكاديمية متخصّصة في الشّعر أو الأدب، غير أن الرد سيكون بسيطاً جداً ومُقنِعاً جداً بأنه لا وجود لتعظيمٍ في الكلام عن هذا الحدث الثقافي طالما أن العنوان الذي وضع له هو «حوار في الشّعر وما يجاورُه» وتحت كليشيه عريض ويوحي بجدية رصينة ودقيقة هو «بيروت تحاور أدونيس». فهل كان على المنظِّمين المُعجبين بأدونيس أن يوجّهوا الدعوات إلى معنِيّين بالشأن الشعري والثقافي في الجامعات والمؤسسات والمواقع الأدبية، بدلاً من أن يكتفوا بترحيب بعض «هواة» محاورة أدونيس كرمز إبداعي عربي؟ من المؤكد أن الجواب سيكون نَعَم، فبيروت التي ينبغي أن تحاور أدونيس لا تحاوره بهذه الطريقة العشوائية حول مواضيع متفرّقة مُكرّرة وروتينية، بل تفتح معه نقاش السنوات العشر القادمة في الشعر العربي طالما أنّ أدونيس يعتبر «النساء» مبدعات الشعر في هذه المرحلة، فمَن هُنّ ؟ وماذا يكتبن؟ وما هو الجديد عندهن؟ وهل يمكنهنّ أن يتجاوزن عقدة الروّاد فيصنعن ريادة خاصة بهنّ ؟ وفوق ذلك محاولة فكّ ذلك اللغز الأعمى الذي منع أدونيس من أن يكوّن جمهوراً واسعاً لا بالمعنى الاستهلاكي أو كيفما اتفق (جمهور اللقاء نموذج !) بل بالمعنى الجمَالي أو المضمونيّ الخاص بالانسان! وما هي الفوارق بين جمهور عربي للشّعر كان أدونيس يهاجمه في الخمسينات والستينات، وجمهور موجود اليوم، وهل لديه ملاحظات في هذا الخصوص أم أن الزمن متوقف عند ما قاله قبل ستينَ عاماً وأكثر؟ وأكثر أكثر: هل تغيّر شِعر أدونيس بين ما قدّمه يومذاك ثم في المرحلة التي تلَت على أساس الحياة المتحرّكة بقوّة، وما يقدّمه اليوم، وما هو هذا التغيّر إذا كان قد حصل، أمّا إذا كان لم يحصل فلماذا التجمُّد؟… أسئلة كهذه يمكن أن تكون على مستوى «بيروت تحاور أدونيس»، والضّرب على أوتارها بإصرار هو دعوة إلى أدونيس لكي يغادر الخنادق التي كوّنها لنفسه كدفاعات حول مفهومه «الدهري» للشّعر فقد تعدّلَ العالم ولم يتعدّل، ومفهومه للجمهور فقد تغيّرت الدنيا واستمرّت نظرية «الكثرة ليست دليل شاعرية» من دون معرفة ما إذا كانت القلّة قد صارت هي دليل الشاعرية!

 

كان ينبغي لبيروت وهي تحاور أدونيس هذه المرّة أن تعرف ما إذا كان لديه جديد يقوله، لا قديم يعيدُه، وما إذا كان شِعره وصل إلى ضالّته التي لا يعرفها ولا نعرفها، وما إذا كان الجمهور ما برِحَ دفءَ الشاعر أم صقيعَه، وما إذا كان الشّعر سيبقى إبداعاً بشريّاً أم سيحوّله الذكاء الاصطناعي»قَلْعَطَة» أكبر مما تحوّل على أيدي بعضِ مَن نُضيّع بينَ أسمائهم وصِفاتِهم وشِعرهم حَمّال الخراب !

theme::common.loader_icon