بعضُ المهتمّين بالقراءة والكتابة، يتحرّك فيهم الفضول حين يقرأون كلمة «أسرار» ويوجّهون المعنى فوراً إلى الجانب الشخصي. لا شخصيّ بالمَرّة في كتابي. ذلك أنّ حياة الزوجين عاصي وفيروز الخاصة لم تكن مستباحة لأغراضٍ شرّيرة كحياة معظم النجوم، وليس فيها «الأكشن» من خلافات ونزاعات وطلاق وعودة عن الطلاق وما إلى ذلك من المعتاد عند الآخرين. وحين حصل الخلاف والافتراق الفني عام 1978 (ولم يحصل طلاقٌ لرفض المطران جورج خضر شخصياً المسألة) حدثَت بعض «المناوشات» التي ظهّرَتْها صحافةٌ بائسةٌ، بأنّها حرب البسوس، لكن رِقّة القلوب وعِشْرة العمر طغَت، وفرضت كلمتها.
كلمة «أسرار» هنا تتعلّق بأمرين: الأول هو أننا، جميعاً اليوم نعتبر أنّ أغلب، نتاج الأخَوين رحباني هو كُنوز. الشِّعر كنز، والألحان كنز، والتوزيع الموسيقي كنز، والمسرح كنز، والتسجيلات التلفزيونية بالأسوَد والأبيض كنز. وعلى مدى عشرين عاماً، حمَل صوت فيروز، والفرقة الرحبانية إلينا هذه الكنوز الإبداعية. أنا أحاول بكلمة «أسرار» أن أشرح بالتفصيل الجَدّي والنقدي، كيف تحوّل عاصي ومنصور من شاعرين تقليديّين في المفردات والمعاني السائدة إلى أكبر شاعرين بالمَحكية في العالم العربي، وكيف تبدّل وضعُهما من عازفَين موسيقيّين متواضعَين، أحدُهُما مع مغنية مبتدئة، والثاني مع راقصة مبتدئة، أوّلُ الخمسينات من القرن الماضي، إلى أهم ملحنَين ومؤلّفين للموسيقى في الشرق، وكيف أصبحت أعمالهما الفريدة كنوزاً عبر ميزاتها وخصائصها، وهذا لايعرفه إلّا قلّة نادرة من المدقّقين.
ثانياً: صوت فيروز هو كنز الكنوز، لكنْ قلّة أيضاً تعرف لماذا «أصبح» كنزاً ؟ وكيف غادرَت الفتاة الخجول مكانها بين كورال الإذاعة لتكون مغنّية ثم ترفضها لجنة مهرجانات بعلبك كبطلة عام 1957 ثمّ تصبحُ واحدةً من أجمل الأصوات قاطبةً في مجد زمن النهضة الفنية العربية، وبين كبار الكبار؟ ومَن علّمَها؟ مَن جرّأَها على الصعب والمستحيل بنظرها؟ وماذا فعَلت هي، وفعَل الأخَوان عاصي ومنصور في الطريق المضني والممتع والجريء، للبحث عن ذلك الكنز في الغناء الشرقي، وفي التقنية الغربية للإداء الدرامي؟
لكنْ ما يجب أن يعرفَه قارئوه، أنني لا أكتب مذكرات أحدٍ من الثلاثي، بل أكتب ذكرياتي ومشاهَداتي ووثائقي، ولا أمارس دور المؤرّخ الذي يَلحَق الإنتاج الرحباني من بداياته إلى نهايته، فيدوّن متى سُجّلت هذه الأغنية أو تلك، وكيف عُدّلت هذه المسرحية أو تلك، ويغوص في تحقيقات ميدانية عن زمن انقضى من تسجيلات في إذاعات لبنان وسوريا ومصر، فقد «تَرَكَها» الثلاثة خلفهم اهتماماً بالمستقبل. أنا أوجّه عدسة العين إلى أبهى نماذج الأعمال الرحبانية شهرةً ونجاحاً شعبياً وقيمةً فنية فأحلّلَها وأتبصّر ما فيها وأتأمّل عن قربٍ لصيق مبانيها الفنية، ومعانيها، وأعقد مقارنات بينها وبين غيرها من أعمالهم وأعمال غيرهم.
يَهُمّني تاريخ عرض المسرحيات، لنعرف فعلَ الزمن، لكن المسرحيّات بذاتها هي همّي وهي نطاق عملي، فلا يطلُبَنّ أحَدٌ مني أن أُقدّم لهُ «لائحة» مفصّلة بكل العتيق. دَوري حصرتُه في تفنيد وتفكيك ومعالجَة علْمية وعمَلي لما هو متاحٌ ومسجّل ومنشور من أعمال عاصي ومنصور وفيروز التي «احتَلّت» المكان خلال ثلاثين عاماً، وهدفي هو تحريك الأذهان نحو كُنوزهم التي نعرفها ونشَأنا عليها.