


من المفارقات التي لا يمكن أن تكون مُصادَفة، بل بتدبير مُدَبِّر هو عاصي الرحباني، لم يقف أمام فيروز أي ممثل أو مغنّ في كل المسرحيات الرحبانية، بدور الحبيب. اثنتان فقط كان هناك حبيب لفيروز فيهما، ولكن يغيب طوال الوقت عن المسرح، جوزف ناصيف بدور «نايف» المسافر في مسرحية «لولو»، وحين يعود متزوّجاً وبأولاد، يكمل الكذب عليها بقَول «بحبّك»، وفي «بترا» بدور الملك الذي يذهب إلى الحرب ويأتي في نهاية المسرحية. ربما في «قَصقِص ورق» كان لها حبيب لكن كأنه من الذاكرة. كل أغاني الحب العالية القيمة التي نسمعها بصوت فيروز في إذاعاتنا أو في التلفزيون «القديم» كانت موجّهة إلى حبيب مفتَرض !
من هنا فإننا نُصدِّق القول انّ عاصي ومنصور، وهُما يكتبان المسرحية ويصلان إلى أغنية، كانا يتركان تأليفها إلى وقت آخر، لأن الحبيب «الوهمي» ليس موجوداً على الخشبة بدور أو بشخصية لكي يكون منخرطاً في القصة فتأتي الأغنية جزءاً من متن النصّ، بل كان في الخيَال الرحباني الذي فرَض على فيروز أن تبقى بلا حبيب في كل المسرحيات، وحين تغني له، تغني لرجلٍ من تَصوُّرٍ ذهني لا من لحم ودم ومعايشة ! ولعلّ المسرحية الرحبانية الوحيدة التي كانت بطلتُها تُحبّ حبيباً يُمثل معها على الخشبة ، كانت «دواليب الهوا» لصباح وقد أدى الدور إيلي شويري... بيّاع دواليب الهوا المتنقّل في الطرقات وتنشِد له «سَفّرني معك على هالطرقات». فهل كان ممنوعاً على فيروز، حتى في المسرح ، أن يكون لها حبيب ؟ وكيف استطاع الجمهور الكبير أن يصدّق ذلك الحب العميق الخلّاب الوهّاج في أغاني الحب، في كل المسرحيّات، وكانت فيروز تتوَجّه به إلى شخص افتراضي، غائم، ضائع مثلُه مثل «شادي اللي بعدو زغَيّر عم يلعب ع التلج» ؟ وهل كان عاصي لا يطيق وجود حبيب لفيروز على المسرح حتى لا تصير الأغاني لهُ، ففضّل الشعور بأن فيروز تغني له هو لا لأي شخص آخَر ؟
ثم ما هو ذلك الحبّ الذي يشكل نوستالجيا قائمة بذاتها، وممنوع أن يدخلَ عليه تجسيد بشريّ طبيعي خشية تضييع رونقه الماورائي ؟
أمثلة: «سَوَا رْبينا»، وهي أحدى أمتع أغاني الحب وأروعها نصاً وروحاً، يظنها مَنْ لم يشاهد المسرحية أنها أغنية لحبيب، والواقع أنها أغنية لـ»عَرَبية الخُضرة» في مسرحية «الشخص» بعدما حاكموا بياعة البندورة (فيروز) وباعوا «العَرَبيّة» بالمزاد العلني، وقفت أمام «العربية» تغني لها :
«سَوا ربينا، سَوا مشينا، سوا قضّينا ليالينا / مَعقولِه الفراق يمحي أسامينا، ونحنا سوا سوا ربينا؟»… فَبأرَقّ الكلمات وأعذب الموسيقى ودّعت بياعة البندورة «عربية الخضرة» كأنما هي أعز من حبيب. «من عزّ النوم بتسرقني» هي أيضاً تعاني من عاشق سارق غير موجود لا أصلاً ولا فصلاً. «أنا مش سَودا بس الليل سَوّدني بجناحو» التي يقال إن الشاعر محمود درويش قال انه يتمنى لو يكون ذلك العاشق التي تغني له فيروز هذه الأغنية بالذات، وهذه الجُملة الشّعرية بالذات، كانت أغنية عاشقة إلى… لا عاشق. في مسرحية «صح النوم» تجلس فيروز البنت التي سرقت خَتم الوالي ورَمَته في البئر وتغني «ع هالبير المهجور، نَطَرتك يا حبيبي» ولا حبيب ولا مَن يحبّون. في «المحطة» فيروز البنت التي تُقنع أهل المدينة أنه سيمر قطار في أرضهم ، وتغني «ليالي الشمال الحزينِه، ضلّي اذكريني اذكريني، ويسأل عليي حبيبي بليالي الشمال الحزينِه».. ولم يكن حبيبٌ في الشمال ولا الجنوب ولا الشرق ولا الغرب. في «جبال الصوان» فيروز البنت التي أتت لتُخلّص شعبها من «فاتك المتسلّط»، تغني لحبيبها «صَيّف يا صيف ع جبهة حبيبي» ولا حبيب يُصيّف أو يُشَتي أو يُخرْفِن أو يُرَبعِن معها. وهكذا... يمكن أن نعُد مئات الأغاني، مئات أغاني فيروز الغرامية في مسرحيّاتها، ويبقى الحبيب مجهولاً على طريقة «تَعا وْلا تِجي» !
«جسر القمر»
في «جسر القمر» فيروز بنت مرصودة.. أي لا حبيب . في «هالة والملك» تنتظر حبيباً «والنّطرة طاقة ع الحب» كما تقول إبنة السّكَرجي التي جاءت تبيع «الوجوه» فظنّوها أميرة مُتخفّية وقرروا تزويجها لملك المدينة، فترفض. في «يعيش يعيش» فيروز بنتٌ تعيش عند جدّها في دكان على الحدود ولا حبيب. في «ميس الريم» تنقطع سيارتها في مدينة أهلها منقسمون ولا وقت للحب إلّا إذا قرّر مختار المخاتير. في «ناطورة المفاتيح» تبقى فيروز وحيدة بعد هجرة أهل بلدها بسبب الظلم، فمن أين يدخل الحبّ ؟ في فيلم «بنت الحارس» فيروز تسترجع حق والدها المُبعَد عن عمله قسراً.. وتحب أختها الصغرى (التي كانت ريما الرحباني) لا أكثر ولا أقلّ. في فيلم «سفربرلك» تحبّ «عبدو» الثائر الذي لا «تراه» إلّا عن بُعد عشرة كيلومترات في آخر الفيلم ! وفي الأغاني العاطفية المصوّرة في التلفزيون قديماً، وهي أغان غاية في الطيبة والروعة والإتقان، كان الحبيب... في خبر كان. فهل الحب الجارف الذي عاشه عاصي مع فيروز، كان يمنعه من أن «يضعَ» لها حبيباً في النص المسرحي، ثم يتجسّد على الخشبة ؟
أم أن غياب الحبيب، واستحضاره من ذاكرة ما، أو من أرض ما، أو من فراق ما، هو الذي أَوقَد نار الكلام الشّعري الرحباني، فأوْغَل الأخَوان في هذه الفكرة، وكانا كلّما أوغَلا أكثر زادت صورة الحبيب جمالاً وسحراً ودهشةً، وازداد صوت فيروز تعطّشاً إلى «الحقيقة» الغرامية التي لن تصبح واقعاً، في يوم. وما لا نستطيع الوصول إليه، والحصول عليه، يبقى ساكناً في البال !
• (من كتابي الذي سيصدر خلال أيام «أسرار الكُنوز بين الرحباني وفيروز»)








