لم يبق صوت في الداخل او الخارج إلّا وصرخ بأنّ لبنان لم يعد يملك ترف تضييع الوقت، فالآتي مع هذا الوقت الضائع سيكون حتماً أدهى وأعظم.
الازمة تستفحل وتتعمّق وتنزلق اكثر فأكثر في منحدر الهلاك، ولا يختلف اثنان على انّ مردّ ذلك يعود الى الغياب المَرَضِيّ للإحساس بالواجب والمسؤولية السياسية والوطنية والأخلاقية والدستورية والقانونية، الذي من شأنه أن يفرض على كلّ مكوّنات البلد أن تستشعر بشكل جدّي ولو بصورة استثنائية ولمرة واحدة، خطورة المرحلة الراهنة والمصير المشؤوم الذي يتهدّد لبنان واللبنانيين.
منذ بداية الازمة، والمسار هو نفسه مستمرّ، ولم يَحدْ قيد أنملة عن الحفر في جرحها؛ مكونات سياسيّة تعادي التوافق والتلاقي، وتستمتع بالتوتير والانقسام، وتذخّر الأزمة بما يشعلها اكثر اقتصاديا وماليا ومعيشيا وسياسيا وطائفيا ومذهبيا. واكثر من ذلك، بدل ان تُشاطِرَ اللبنانيين همّهم وخوفهم على وجودهم، تتشاطر عليهم، وتختزلهم في استقوائها واستعلائها عليهم، وتُذيبهم في وعودها وشعاراتها وانانياتها واهوائها وحساباتها ومكابراتها ومصالحها التي ثبت للقاصي والداني انها فوق مصلحة لبنان واللبنانيين.
«آخ يا بلدنا»، جملة من ثلاث كلمات قالها الرئيس نبيه بري في مهرجان الإمام موسى الصدر، لخّص فيها وجع اللبنانيين ممّا آل اليه حال لبنان المفجوع في كل مفاصله. مَهّد بها لاطلاق مبادرة حواريّة مُبتدؤها وخبرها اخراج هذا البلد من عصر انحطاط أُدخل فيه قهرا، فسّخه وجعل كلّ شيء فيه يُدار وفق المصالح الفئوية والسياسات المدمّرة والشعبويات الهدامة، وتجنيب اللبنانيّين بكلّ فئاتهم وأطيافهم إطلاق صرخة «آخ يا بلدنا» بِدويّ أكبر واقسى، على مصير هذا الوطن، إن بقي هذا العصر متسيّداً. فالخطر المحدق بهذا البلد يتفق القاصي والداني والشقيق والصديق على انّه بات خطرا وجوديا إن لم يتم تداركه قبل فوات الأوان، وبعد خراب البصرة، لا ينفع الندم.
ومن هنا، قارب الرئيس بري الأزمة الرئاسية بما تقتضيه من مسؤولية، وسدّد بمبادرته تمريرة ثمينة الى كل مكونات البلد، لعلها تستولد عقلاء تسري فيهم ما سمّاها «صحوة ضمير» تصوّب المسار، يلاقون فيها ما يتوق إليه كلّ اللبنانيين ويتشاركون معه في تحقيق هدف الفوز بالبلد.
مبادرة بري، جوهرها طيّ صفحة مظلمة، والتأكيد بما لا يقبل ادنى شك، على انّ الحلول ليست مستحيلة، بل هي اكثر من ممكنة اذا شئنا ذلك، والمدخل الالزامي والبديهي للانقاذ كما يُشخّصه الرئيس بري، هو ان تبادر كلّ المكونات السياسية على اختلافها، من دون تلكؤ ومن دون شروط مسبقة الى ازالة العوائق السياسية والشخصية التي تمدّد أمد الشغور الرئاسي وتحول دون انتخاب رئيس للجمهورية. وأولى الخطوات هي نزول المتعمشقين على أعمدة المكابرة والتعطيل الى أرض الواقع، والجلوس الى طاولة الحوار الذي لا بدّ منه ولا بديل عنه.
ذهبت الخفّة ببعض التحليلات الى اعتبار مبادرة بري كخطوة مزاحمة لمهمّة الموفد الرئاسي الفرنسي جان ايف لودريان، وهو امر لا يتوقف بري عنده، ذلك ان مبادرته تؤكد من جهة على الطابع السيادي لهذا الحوار، ومن جهة ثانية، تُلاقي المسعى الفرنسي المغطّى من اللجنة الخماسية، وترفده بما يسهله اكثر، باعتبارها تصب في ذات الهدف، وهو أن يأكل اللبنانيون في نهاية الامر العنب الرئاسي.
في حديثه لـ«الجمهورية»، يستذكر بري مسلسل المبادرات الحوارية التي أطلقها للتوافق على حلّ رئاسي، والذاكرة اللبنانية تسجل له قوله ان فلنكن في مجلس النواب واحداً من اجل لبنان، وعلى هذا المجلس تقع مسؤولية انقاذ بلدنا، لكن المكابرات صمّت الآذان الصماء ومنعت سريان هذه الصرخة في هشيم السياسة اللبنانية... فلو كنّا جلسنا مع بعضنا البعض لكنّا انتخبنا رئيسا للجمهورية قبل اشهر، لا بل بعد شهرين على ابعد تقدير من بدء الشغور الرئاسي. ولما تفاعلت ازمة البلد ووصل لبنان واللبنانيون الى ما وصلوا اليه.
خطيئة التعطيل، دفّعت لبنان واللبنانيين اثمانا باهظة، وتهدّد بأثمان اغلى، ومن هنا، يؤكّد بري ان مبادرته، هي الفرصة الاخيرة، التي يتوجب الا نفوتها، إنْ كنا حقاً نريد أن نرحم بلدنا ونُنهي أزمته الرئاسية وننتخب رئيساً للجمهورية.
امّا حوار السبعة ايام الذي يدعو إليه بري، فمتوزّع على جولتين يوميا؛ جولة نهارية وجولة مسائية، وجدول اعماله محدّد حصراً ببند وحيد هو رئاسة الجمهورية، ولا شيء غير ذلك.
يقول بري: إن الاساس في الدعوة اولاً هو أن يأتي الجميع من دون استثناء الى طاولة الحوار، وكل فريق ينيب من يمثّله فيه. وكما هو معلوم، فإنّ هناك «بلوكّين» في مجلس النواب، «بلوك» يريد الحوار ثم انتخاب رئيس للجمهورية، و»بلوك» يريد انتخاب الرئيس ومن ثم الحوار، وجاءت الدعوة الى حوار السبعة ايام، لترضي البلوكين. وبالتالي، نجلس معا على طاولة واحدة، ونتناقش، ونتحاور بصفاء نيات، ونطرح كل الامور المرتبطة بالملف الرئاسي على الطاولة، فإن اتفقنا على مرشح واحد فذلك امر عظيم وجيد للبلد، وإن لم نتمكن من ذلك، نتفق على مرشَّحَين، وربما اكثر، ومن ثم ننزل مباشرة الى مجلس النواب لننتخب رئيس الجمهورية».
ويؤكد بري انه أياً كانت نتيجة هذا الحوار، سواء نجح او فشل، فأنا سأنزل الى مجلس النواب لعقد جلسات متتالية حتى يتصاعد الدخان الابيض كما يحصل في الفاتيكان، وننتخب الرئيس.
ويقول: في ايلول، يجب أن نرسم خطّ النهاية للأزمة، وما أراه واجباً على الجميع هو أن ننتخب رئيسا للجمهورية في هذا الشهر، وما اتمناه هو ان يلبّي الحوار ما يطمح اليه اللبنانيون، ونحتفل جميعاً بهذا الانتخاب قبل نهاية أيلول. وننصرف بالتالي الى اعادة الانتظام الى حياتنا السياسية بدءا بتشكيل حكومة لتبدأ مهامها في مقارعة الازمة واتخاذ الخطوات والتدابير الآيلة الى انهاض البلد وإنعاشه.
ولكن السؤال الذي يفرض نفسه هنا: ماذا عن نصاب الجلسات المتتالية التي ستلي الحوار؟
يقول بري: الاساس في الحوار هو ابقاء النصاب قائماً. فعندما ندعو الى حوار بصفاء نيات، يعني ان النّصاب أمر مفروغ منه، وعندما نقول جلسات متتالية حتى انتخاب رئيس للجمهورية، يعني جلسات بنصاب كامل (وفق ما تنص عليه المادة 49 من الدستور)، وليس جلسات على غرار الجلسات الـ12 السابقة التي فشلت وطَيّرها النصاب. ففي هذه الحالة نبقى مطرحنا.
يبقى انّ بري الذي يأمل أن يكون ايلول شهر الحسم الرئاسي، يرصد ردود الفعل على مبادرته، والمسألة مسألة ايّام قليلة، فعندما تكتمل يَبني على الشيء مقتضاه.