محمد علي شمس الدين طَوّر قصيدتَه دون خِيانتها كغَيره!
محمد علي شمس الدين طَوّر قصيدتَه دون خِيانتها كغَيره!
عبد الغني طليس
Saturday, 15-Jul-2023 06:32
صَبَر الشاعر محمد علي شمس الدين على لُغَته الشعرية، وأعتقدُ أنّها صَبَرت عليه إلى الوقت الذي بات بإمكانهما أن يكبرا معاً، وأن يتسع العالَم لهما من دون أي خيانة لِلذات الشعرية ولِلّغة التي هي الأسلوب والمعاني الجديدة وتكنيك تركيب القصيدة. من البداية، ومع مرور الوقت كان شمس الدين مهتمّاً بأن يكون هو ولا أيِّ آخر معه في شِعره، فكانت تتمدّد تجربته في ذاتها، تحفر في ما حولها وفي مداها وتحتل مساحات جديدة لا هي مستلَبة من «أرض» أحد، ولا مستعارة .
 

محمد علي شمس الدين مات وفيّاً للجنوب. الأرض التي أنبتَته وكبّرتْه وصيّرتْه شاعراً. ومات وفيّاً لشاعريته التي ما ألبسَها ثياب من سبقوه ولا وجوه مَن لحقوه ولا ياقات قمصان مَن هُم بينَ بين. وكما فعَل في تجربته الشعرية حفراً في التراب وفي المدى وفي الأدوات الإبداعية، هكذا فعَل في شُهرته حفراً بين لبنان والعالَم العربي الذي كان ينظر إليه نظرته إلى روّاد قصيدة التفعيلة لا إلى من أتى بعدهُم.

 

وكانت لدى شمس الدين جرأة مفقودة عند كثير من شُعراء التفعيلة عموماً في لبنان والعالَم العربي. فشاعر التفعيلة غالباً بل غالباً جداً ما يطَلّق الموزون المقفّى بالثلاثة، ويعتبر أنّ التفعيلة حرّرته من قيود الوزن (العروضي المعروف) والقافية، وفرشَت الطريق أمامه عبر التفعيلة الوحيدة ليقول ما يريد متخفّفاً من الأَحمال الأُخرى، أما محمد علي شمس الدين فلم يخلُ ديوان له من القصيدة الكلاسيكية. كأنّه كان يمارس حرّية خاصة في كتابتها فيبُثّ فيها «صناعته» الشخصية المتفلّتة من المعاني المألوفة للكلمات، كعادته، ليؤلّف حالة خاصة به ترصدُها كقارئ فتفاجئك بتركيبات أخرى لم تكن تتوقعها. شمس الدين كان صيّاداً ماهراً جدّاً في جذب المعنى العُلوي إلى أوراقه، وفي سحب المعنى الأرضي إلى فضاء يبتكره، ولم أقرأ له قصيدة من الشّعر العمودي إلاّ وكانت تطغى فيها المفاجآت، تماماً كقصائد التفعيلة. وإذا كان ملتزماً في الكلاسيكية أصولَها مع الحرص على إرسال شيفرات جمالية جديدة، كان في التفعيلة قائد أوركسترا حقيقياً. فصحيح أنّ التفعيلة الواحدة في القصيدة الواحدة، حين تتكرّر، وهي حُكماً ستتكرّر، قد تتعَب أو تُتعب الشاعر تبعاً لأُذْنه الموسيقية وطول أناته أو قِصَرها، أمّا عند محمد علي شمس الدين فتتحوّل إلى سيمفونية روحانية تُحِسّ بها وبمفاعيلها وأنغامها في شكل يبعد «روتين» التفعيلة، ويُدخِلُك عالَماً موسيقياً شِعرياً متميزاً. فوراء أصداء الكلمات والأفكار والصوَر خلفيةٌ من الكلمات والأفكار والصّوَر تتلاحق وتفتح الطريق أمام المقاطع الجديدة في القصيدة الواحدة فكأنما هناك هارموني نوتات تتوزّع على ميلودي تخطو الخطوة الأولى فتندفع خلفها صاحباتها في انسجام جميل، يترك انطباعاً بأنّ شمس الدين يفعل هذا الفعل متسلّحاً بعلْم إيقاعي /موسيقي كامن خلف علْمه بالإيقاع العروضي الشائع.

 

وإذا كان هناك خلاف بين الشعراء عموماً حول سؤال هل هناك كلمة شِعرية وأُخرى غير شعرية، فإنني أعتقد أنّ شمس الدين لشدّة تأنّقه في العبارة كان يؤمن بأنّ هناك كلمات شعرية وأُخرى غير شعرية، وإذا لم يكن هذا الإيمان موجوداً عنده بشكل كامل وجذري، فإنّه كان موجوداً في حدود عالية، إذ من الصعب الوقوع في قصائده على كلمات مؤذية أو جارحة أو ثقيلة الوطأة على الأذُن. كان، إلى مدى كبير يحمل دائماً مقصّاً يشذّب به العبارة وينقّيها ويطرح اليابس منها، كالمزارع الذي يعرف تماماً ما يفيد الزرع وما يضرّهُ. وهذه الأناقة في الجملة كان شاطراً وحرّيفاً في نقلِها الى القصيدة ككل، فكأن قصيدته تسبح في نهر نظيف، تغتسل، وتتشمس، وتأتي إلى الديوان زاهية حتى ولو كانت مضرّجة، وفَرِحة ولو كان فرحُها بكاء، ويستقبلُها قلبك والعقل بتأنٍّ، فمحمد علي كان دائمَ السعي إلى أن تتجمّل قصيدته بما تستحق من الرهافة والشفافية لا بإبَر غموض أصبحت في أيّامنا عمَلاً ثابتاً للكثير من الشعراء.

 

يقول ميشال فوكو «إنّ القارئ إذا لم يكن رُبع النص الذي بين يديه (شِعراً ونثراً،أدباً وعلْماً) غامضاً من القراءة الأولى، لن يحترمه». كأنّ هذا هو ميزان محمد علي شمس الدين في الكتابة الشّعرية سَواء عرف بفلسفة فوكو أم لا. ثمة غموض شفّاف، يلامس الذائقة، يحرّكها، من القراءة الأولى لقصائد شمس الدين، ويدفعك بحب إلى القراءة الثانية. والغموض الشّعري لا يلازم قصائده كأنّه أصلٌ من أصولها، بل كحالةٍ محيِّرة تحضّ القارئ على فكّ رموزها من دون «إزعاجه» من الشاعر بادّعاء «المعرفة الشعرية» أكثر منه. هناك احترام للقارئ عند محمد علي شمس الدين، ولستَ لتشعرَ أبداً أنّه ينافسُه أو متشاوفٌ عليه أو يناصبُه العداء. شيء ما يشبه الرفقة، يشبه الصحبة، يشبه خيطاً تواصليّاً معلّقاً بينهما. ومتابعة شِعر محمد علي شمس الدين من بدايته إلى آخر حرف كتبهُ في حياته تُقنعكَ بأنّ ما بين الشاعر والقارئ متين وصلب ومؤثّر وليس لقاء عابراً وفوق السطوح.

 

والقراءة الثانية لقصائد شمس الدين لا تقلّ إمتاعاً عن الأولى لأنّها تكملة لها لا مقطوعة عنها، ولأنّها تنبّهُك إلى «الأماكن» التي كنتَ فيها مستعجلاً عليه وعلى نفسك، فلم تتداركها في الأولى.. وبهذا تكون القراءة الثانية قد جمعَت بين يديك القصيدة أو الديوان على محبة وأُنس.

 

على أنّ النزعة الصوفية وأقول بعبارة أدقّ، الحالة الصوفية التي تجسّدت في شِعره في سنواته الأخيرة لم تكن طارئة أو مفتعلة كما هي الحال عند بعض «المتصوّفين» التركيبيّين، فقد وصل في إيمانه بالله حدّ القول «لقد وجدتُه في كل شيء». منطق الحلولية، حلول الله في كل الكائنات والمخلوقات قديم، وشمس الدين كان يعتبره جزءاً من كيانه البشري. حتى على صعيد الفرائض الدينية كان محمد علي مؤمناً وموقناً بأنّ كل شيء مرهون بقدرة الله ونظرته . وقد انعكس هذا في شِعره بطريقة «ما ورائية»، أي أنّ ما وراء القصيدة كان يقول أكثر مما تقول القصيدة في الإيمانيّات. فما الذي أوصلَ محمد علي شمس الدين إلى هنا ؟ يقول: «أنا أوصلتُ نفسي إلى هنا. حصل كل شيء بسَعْيٍ مني». قرأ المتصوّفةَ العرب باكراً جداً في حياته، وأحبّهم وتأثّر بهم، لكنّ صوفيته كانت «شيئاً آخر» كما يُعرّف، وكما أوحَت دواوينه الأخيرة، التي كان فيها الله حاضراً وقادراً وأباً وجَداً عطوفاً، ولو لم يُسَمِّه. ربما كان يخشى التسمية أحياناً فيلتفّ عليها ليكون المنادَى أحَداً آخر. لم يدّعِ ما ادّعاه شُعراء تصوّف كثُر سبقوه، بل تواضع أكثر فأكثر في معرفة الله . بات أرَقّ، بات أعذب، عندما بات قاب قوسين أو أدنى من الموت. الموت الذي تكلّم عنه كثيراً ، وأخبره بحالِه وأفكاره قبل أن يأتيَه . وحين أتاهُ كانت قصيدته قد اكتملت . اكتملَت بالله ، ولم يَعد لدى محمد علي شمس الدين ما يربطهُ بحياة أُولى يقال إنّ الحياة الثانية أجمل منها!

theme::common.loader_icon